معظم سكان الأرض يدينون بدين ما ويعتقدون في وجود إله خالق للكون مدبر لشئونه. ولكل دين معتقداته وطقوسه والتزاماته التي تُفرَض على أتباع الدين، والفرق بين التزامات الدين وأحكام القانون أن الأولى اختيارية (إذا سلمنا بحرية العقيدة) والثانية إجبارية في المجتمع الذي يحكمه القانون. القانون يحكم النظام العام للمجتمع لضمان استقراره، أما الدين فهو علاقة روحانية بين الإنسان والله وليست له علاقة مباشرة بالضرورة باستقرار المجتمع. العديد من المجتمعات التي لا يغلب عليها الطابع الديني مستقرة تماماً، وفي المقابل هناك العديد من المجتمعات المتدينة تغرق في بحور من الفوضى. أما المجتمعات التي يُحتَرم فيها القانون فتجدها دوماً مستقرة. ثم إن المجتمعات المختلفة تتباين في أغلبيتها الدينية ولا يبدو ذلك مرتبطاً بالضرورة بالاستقرار أو النمو، فمن الدول المتقدمة تكنولوجياً واقتصادياً الصين واليابان (البوذية) وإندونيسيا وتركيا (الإسلام) والولايات المتحدة وألمانيا (المسيحية) والهند (الهندوسية). وفي المقابل نجد الصومال وأفغانستان (الإسلام) والمكسيك وكولومبيا (المسيحية) وكامبوديا (البوذية) ونيبال (الهندوسية)، كلها مجتمعات فقيرة مضطربة ليس للقانون فيها احترامه الواجب. وعلى الرغم من أن احترام القانون ليس العامل الوحيد في استقرار وتقدم الدول، إلا أنني أحسبه من العوامل الهامة جداً.
وطبقاً للمادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن القانون لا بد أن يساوي بين المحكومين به بغض النظر عن اختلافاتهم البيولوجية والفكرية، والدين من أحد هذه الاختلافات. وعليه فإنه لا يجب أن يصرح القانون أو يلمح بالممايزة بين المحكومين به بناء على الدين، وذلك إذا كانت دولة هذا القانون تحترم حقوق الإنسان وتحقق المساواة التامة بين مواطنيها. كندا على سبيل المثال دولة علمانية أغلب سكانها من المسيحيين، والدستور الكندي بموجب ميثاق الحقوق والحريات الكندي الصادر في ١٩٨٢ يحظر التفرقة بين المواطنين كما نص إعلان حقوق الإنسان ويكفل للمواطنين جميعاً حرية العقيدة والعبادة. ليس هناك قانون واحد في كندا كلها يحرم أي مواطن من حق من حقوقه الأساسية بناء على الدين.
أما الالتزام الديني فهو أمر آخر. العديد من الأديان تلزم أتباعها إلزامات معينة في الطعام والشراب، فالمسيحيون يصومون في أيام محددة عن الطعام والشراب ويفطرون على طعام نباتي (على الأقل هذا هو الحال عند الأقباط الأورثوذكس) والهندوس لا يأكلون لحم البقر، واليهود لا يأكلون الخنزير ولا الجمل ولا قشريات البحر ولا المحارات، والمسلمون لا يأكلون الخنزير ولا يشربون الخمر ويصومون رمضان فرضاً، والبوذيون نباتيون لا يأكلون قط ما هو من أصل حيواني. والعديد من الأديان أيضاً تلزم أتباعها بقوانين خاصة في الزواج والطلاق، وبشعائر خاصة في العبادة، وقد تلزمهم بارتداء زي معين أو اتخاذ مظهر معين كما هو الحال مع السيخ، وهلم جرا.
والسؤال هنا هو: هل يمكن أن نحول الالتزامات الدينية إلى قوانين، أو هل يمكن أن نشرع قوانين تختلف باختلاف الدين؟ في بعض البلاد الإسلامية هذا حادث بالفعل، فيُعاقَب من يجاهر بالفطر في رمضان (سواء كان مسلماً أم لا) ويُعاقَب من يعمل وقت الصلاةوتُعاقَب المرأة السافرة على الملأ. وفي معظم البلاد الإسلامية تُمنَع المسلمة من الزواج من غير المسلم حتى وإن أرادت ذلك، ويُحَرَّم التبني. وفي مصر تحديداً ونظراً لوجود عدد كبير من المسيحيين بها، فإن قوانين الأحوال الشخصية تختلف باختلاف الديانة، وعندما يكون أحد طرفي النزاع في الزواج مسلماً تطبق أحكام الشريعة الإسلامية التي تضع الإسلام فوق كل الأديان الأخرى.
و أنا أرفض رفضاً تاماً هذا المزج بين العقيدة الدينية و بين قوانين الدولة للأسباب التالية:
- أؤمن بالمساواة التامة بين المواطنين. اتخاذ دين ما كمرجع أساسي لتشريع القوانين فيه من دون أدنى شك تمييز لأتباع هذا الدين عمن يخالفهم، وخصوصاً في الإسلام واليهودية وهما دينان—على حد علمي—يعتقد كل منهما أن أتباعه هم خير أمة ويرفعهم عن غيرهم في المكانة وينظر نظرة دنيا لمن سواهم، وذلك بخلاف البوذية مثلاً التي تخلو تماماً من تلك النظرة للآخرين. مفهوم المواطنة يقوم على المساواة التامة بين المواطنين في جميع الحقوق والواجبات المدنية، وهو حتماً يختلف كلية عن مفهوم التعايش السلمي و’السماحة‘، تلك المفاهيم التي يضعها دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية خطأ بديلاً للمواطنة. التعايش السلمي يعني ألا تؤذي فئة من المجتمع فئة أخرى، ويختلف مفهوم الأذى من فئة إلى فئة في نفس المجتمع، وقد يكون في منع ’الأذى‘ عن الأغلبية انتقاص غير مبرر لحق الأقلية، أما السماحة فهي أن الأغلبية تسمح للأقلية بالعيش وسطهم وممارسة حقوقهم وكأن ذلك منة من الأغلبية على الأقلية وليس حقاً أصيلاً. المواطنة في المقابل تحدد الحقوق والواجبات دون النظر إلى دين المواطن مطلقاً، فإن حدث وتبدل دين المواطن فإن الحقوق و الواجبات لا تتأثر البتة بذلك.
-
أؤمن أن الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي حقوق أصيلة ثابتة ولا بد من ضمانها لكل البشر. وللجميع الحق في أن يتنازل عن حق من هذه الحقوق إن أراد، وأن يستردها متى أراد. لكل دين خصائصه، وجعل هذه الخصائص قوانين إنما يفرض على المواطنين أحكام دين ما دوناً عن غيره ويُلزِم الجميع بإلزامات هذا الدين وفي هذا قد يُحرَم البعض من حقوقهم المقررة في إعلان حقوق الإنسان، فيلتزم غير المسلم مثلاً بالامتناع عن الطعام والشراب على الملأ في رمضان، أو يُمنَع غير المسلم من الزواج من المسلمة وإن كان الطرفان يرغبان في الزواج. من أراد أن يُلزِم نفسه بالتزامات دينية معينة تحرمه من بعض الحقوق الأصيلة للإنسان، فتلك حريته الشخصية التي يجب أن يحترمها الجميع، وله أن يسترد كامل حقوقه وقتما شاء ودون قيود.
العقيدة حرية شخصية بحسب حقوق الإنسان، ومن حق كل إنسان أن يعتقد فيما شاء وقتما شاء وأينما شاء بشرط ألا يخالف قوانين الدولة بأفعاله، وقوانين الدولة تعاقب على الأفعال وتجرم الأفعال ولا تجرم الأفكار والآراء والمعتقدات. فمثلاً لا يوجد قانون يعاقب من يعتقد أن القتل مباح بصفة عامة بينما يوجد ما يعاقب القاتل، وليس قانون يعاقب من يفكر في خيانة الدولة وإنما من يخون الدولة فعلاً بالتجسس أو التخابر مع أعدائها. حرية المعتقد إذاً مطلقة، وعليه فلا يصح أن يميز القانون بين المواطنين بناء على المعتقد الديني.
ثم أن للأديان مفاهيم مختلفة ومذاهب، وهذه بدورها تختلف في بعض أحكام الدين وبما يُسمَح به ولا يُسمَح به، ويعد اختيار مذهب ما كأساس لتشريع القوانين جوراً على المذاهب الأخرى. ففي مصر مثلاً ينتشر المذهب الحنفي وهو الأساس في التشريع عامة، ويحتمل أن يكون في تطبيقه ما يتعارض مع قناعات ومعتقدات أتباع المذاهب الأخرى، كما إنه غالباً ما سيتعارض مع معتقدات الشيعة، وفي مصر أيضاً يشكل الأقباط الأورثوذكس الغالبية العظمى من تعداد الأقباط، ونجد أيضاً الكاثوليك والبروتستانت، فيكون في الالتزام بالمعتقد الأورثوذكسي جور على الطوائف الأخرى، ويكون في عدم الاعتراف بديانات غير الإسلام و المسيحية واليهودية جور على أتباع هذه الديانات وتقييد لحرية العقيدة، حيث أن للدين خانة لازمة في بطاقة الهوية المصرية. - الدين علاقة روحية بين الإنسان وربه والقانون علاقة دنيوية بين البشر. اختلف الناس على وجود الله من عدمه أساساً، ثم اختلفوا على اعتناق دين ما أو اللادينية التامة، ثم اختلف معتنقو الأديان في أديانهم وفي مذاهبهم، وكلها اختلافات لا تفسد قضية المواطنة، فهم يشتركون في نفس الوطن ويعيشون على نفس الأرض وتحت نفس السماء وتجمعهم ثقافة مشتركة وغالباً ما تجمعهم لغة مشتركة أيضاً، ويحدد القانون علاقتهم ببعضهم البعض. الدين يشمل غالباً يقيناً بالغيبيات والأمور الروحية التي يتعذر التدليل عليها بما لا يدع مجالاً للشك، والدين عامة يترك الثواب والعقاب لله في الحياة الآخرة بعد الموت أو حتى في الحياة الدنيا، وليس للإنسان أن يتدخل في تلك العلاقة ما لم ينتج عنها اضطراب في النظام العام للمجتمع وجور على حقوق الآخرين. على سبيل المثال، طائفة شهود يهوه تمنع أتباعها من الالتحاق بالقوات المسلحة، فيكون وجودها في مصر مخلاً بالنظام العام حيث أن التجنيد في مصر إجباري (وإن كنت أنا شخصياً من معارضي فكرة التجنيد الإجباري).
العينين تحمل سيفاً وميزاناً[٢] |
فما هو الحل المقترح؟ في رأيي المساواة التامة هي الحل، وكل من أراد أن يُلزِم نفسه بتعاليم أو إلزامات في دينه تزيد عن القاسم المشترك الأعظم للمجتمع كما ينص عليه القانون له مطلق الحرية أن يحرم نفسه طواعية من حق من الحقوق الأساسية التزاماً بدينه. فيكون (على سبيل المثال وليس الحصر) الأساس أن من حق كل رجل أن يتزوج امرأة وكل امرأة أن تتزوج رجلاً و لا يحق لأي منهما الجمع بين أكثر من زوج إلا بموافقة كل الأطراف المعنية بالأمر، ولكل منهما الحق في طلب الطلاق أمام المحكمة أو الاتفاق على الطلاق فيما بينهما. لا يخل هذا النص بحق الرجل المسلم في الزواج من المسلمة أو الذمية أو الجمع بين أربع زوجات في نفس الوقت طالما كانت جميع الأطراف راضية، ولا يحرمه من حقه في أن يطلق امرأته متى شاء، ولكنه يترك للمرأة المسلمة مسئولية أن تلتزم بدينها فتمنع نفسها عن زوجها الذي رماها بيمين الطلاق وتُحرِّم نفسها عليه بعد ثلاث طلقات بينات، ويترك للمرأة المسلمة وزوجها مسئولية الالتزام بدينهما في ألا تجمع المرأة أكثر من زوج في ذات الوقت وألا تتزوج من غير المسلم. ولا يخل القانون أيضاً بحق المسيحي والمسيحية في الزواج و يمنحهما حرية الطلاق، ومن أراد أن يلتزم بتعاليم الكنيسة في وجوب الزوجة الواحدة والزوج الواحد وفي الحالات القليلة جداً الذي يباح فيها الطلاق دينياً فله كامل الحرية في أن يلزم نفسه بذلك. على الدولة أن تراعي تطبيق القانون على المواطنين بلا تفريق وليست عليها أن تجبرهم بالالتزام بالدين.
ولكن ذلك لن يحدث أبداً في المجتمعات الإسلامية. أتدري لِمَ؟ لأن المسلمين مأمورون بتطبيق شرع الله في الأرض، و هو طبعاً الشريعة الإسلامية، فالمسلم وجب عليه أن يحاول قدر استطاعته أن يفرض قواعد الإسلام على من حوله، وبالأخص جداً في مجتمع يغلب عليه الإسلام ديناً. أي أن المجتمع الإسلامي حتماً سوف يميز بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم! لن تجد أبداً مجتمعاً يزعم أنه إسلامي المرجعية فيما يتعلق بتشريع القانون يساوي بين جميع مواطنيه بشكل تام.
وقد يُقال إنه لا بأس من أن يكون التشريع القانوني عاكساً للتركيبة الاجتماعية للشعب، فإذا كان الأغلبية من المسلمين فإن تشريع القوانين يغلب عليه الطابع الإسلامي منطقياً. أقول إن المرجعية الفكرية شيء والمرجعية الدستورية شيء مختلف تماماً. لكل إنسان مطلق الحرية وكل الحق في أن يتخذ من منظومة فكرية يختارها مرجعاً له في اتخاذ القرارات، ولكن لا يصح أن تُفرَض هذه المنظومة الفكرية على الجميع ممن يؤمنون ومن لا يؤمنون بها. التركيبة الاجتماعية والعقيدية والثقافية لأي شعب ستنعكس بالضرورة في تشريع القوانين سواء وجدت مرجعية دينية في الدستور أم لم توجد. في الإسلام مثلاً يُعاقَب القاتل بالقتل، ولا أظن أبداً أن الدول ذات الأغلبية الإسلامية ستلغي حكم الإعدام يوماً ما. وقياساً على ذلك في مصر فإن مواعيد العمل تتغير في شهر رمضان، والأعياد الإسلامية عطلات رسمية للدولة، وتُخَصَّص عربتان في مترو الأنفاق للسيدات، ويعد استخدام مكبرات الصوت في التأذين بالصلاة خمس مرات كل يوم أمراً طبيعياً جداً لا يعاقب عليه القانون، ويسمح القانون للرجل بالزواج من أكثر من امرأة. كل هذه مظاهر مختلفة تعكس الثقافة الإسلامية والشرقية لأهل مصر، ولا يلزم لوجودها مرجعية دينية في الدستور، ولا تفريق فيها بين المسلم وغيره.
أما مظاهر التمييز، سواء كانت موجودة بالفعل أم يمكن وجودها إن فُتِح الباب لذلك، فقد تحدثت عنها من قبل في مقال سابق وأكدت على أنني أرفضها رفضاً تاماً.
وعارضني بعض أصدقائي من المسلمين بحجة أنهم في الدول الغربية تنطبق عليهم قوانين تلك الدول التي لا تسمح للرجل المسلم بالزواج من أكثر من امرأة، فتحرمه بذلك من حق أعطاه إياه دينه. وأقول لهم إن ذلك إنما ينبع من مبدأ المساواة التامة بين كل البشر، فتلك المجتمعات لن تعطي الرجل حقاً يفوق حق المرأة، كما أنها لا تحرم المسلم من الزواج ولا من ممارسة شعائر دينه، ولا تحرمه من الطلاق ولا من التبني، إنما يحرمه دينه من ذلك. وإضافة، فإن تعدد الزوجات في الإسلام ليس ركناً من أركان العبادة، ومعظم المسلمين ملتزمون بزوجة واحدة. أرجو ألا تقارنوا التمييز القائم في الشريعة الإسلامية بالمساواة التامة القائمة في القانون المدني معتبرين ذلك تمييزاً ضد المسلمين! وقد حكمت المحكمة العليا لمقاطعة بريتش كولومبيا بكندا بدستورية قانون الزوجة الواحدة، وأخذت في الاعتبار الإسلام كأحد الديانات التي تبيح تعدد الزوجات، وانتهى رأي المحكمة إلى أن ذلك القانون دستوري ولا يخل بمبادئ المساواة ولا بحقوق الإنسان، ويمكن لمن يريد الاطلاع على نص الحكم و حيثياته، وهي وثيقة مطولة.
والخلاصة أن الالتزام الديني هو مسئولية الفرد وله مطلق الحرية في أن يلتزم بتعاليم الدين أو لا يلتزم، وفي ذلك له أن يحرم نفسه من بعض الحقوق الأساسية، وله أن يستردها وقتما شاء، وليس للدولة حق إلزام المواطنين بتعاليم الدين، وإنما للدولة كل الحق في إلزام مواطنيها بأحكام القانون التي لا ينبغي مطلقاً أن تميز بين المواطنين بناء على الاختلافات البيولوجية أو الفكرية، والتي لا تهدف في مجملها إلا إلى إرساء العدل وتنظيم العلاقة بين الأشخاص في الدولة سواء كانوا حقيقيين أم اعتباريين. الدين التزام والقانون إلزام، وشتان الفارق بين هذا وذاك، فلا تلزموا الناس بالدين و لا تتوقعوا منهم التزام القانون في كل الأحوال.
نسب المصنفات
باستثناء المصنفات المنسوبة فيما يلي، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
- قضاعة تبدو وكأنها تصلي: من صفحة تامباكو ’الجاكوار‘ (Tambako The Jaguar) على فليكر (Flickr)
- رمز العدالة: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- رمز حقوق الإنسان الدولية: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- الصورة من موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق