هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات عن بعض المفاهيم في المسيحية. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.
الاعتقاد الشائع عند بعض الإخوة المسلمين أن الخمر مباحة في المسيحية، و عليه فإنه لا بأس على المسيحي أن يشرب الخمر حتى الثمالة أو أن يدمن الخمر، و ربما كانت هذه الفكرة نابعة أساساً من المنهج الإسلامي في التعامل مع الخمر و هو "ما كان كثيره مسكر فقليله حرام"، و قد حُرِّم على المسلم أن يتعامل مع الخمر بأي شكل من الأشكال، و بالتالي ينظر العديد من المسلمين إلى المسيحيين نظرة دونية عندما تُذكَر الخمر و يظنون أن من يشرب منها القليل لا بد و أن ينتهي بإدمانها أو بتدمير صحته بسبب تليف الكبد الناتج من فرط شرب الخمر. و الواقع أن هناك عدة مفاهيم لا بد أن تُصَحَّح في هذا المجال.
جاء في سورة المائدة في الآية ٩٠ و ٩١:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ.
و جاء في سنن أبي داود في كتاب الأشربة حديث رقم ٣٦٧٤:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ مَوْلَاهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ}
و جاء في مسند أحمد في مسند المكثرين من الصحابة حديث ٥٦٨٣:
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَائِلٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:َ {لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَلَعَنَ شَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا}
و سأتحدث في هذا المقال في النقاط التالية:
- الحرام في المسيحية
- موقف المسيحية من الخمر و السُكْر
- أمثلة من الكتاب المقدس توضح بشاعة السُكْر
- إحصاءات عن الخمر و الأمراض المتسببة عنها
- القليل من الخمر
- الخاتمة و الخلاصة
الحرام في المسيحية
في قاموس "مقاييس اللغة"، الحاء و الراء و الميم أصل واحد و هو المنع و التشديد، و الحرام هو عكس الحلال و هو المباح فعله. و قد ذكر فعل "حَرَّمَ" في الكتاب المقدس في عدة مواضع في العهد القديم و لم يذكر و لا مرة واحدة في العهد الجديد، و في كل مواضع ذكره في العهد القديم نجد أن الترجمة الإنجليزية له هي "utterly destroy"، و تعني التدمير الكامل، و سياق الكلام لا يعطيها معنى آخر. و هذه هي مواضع ذكره في العهد القديم:
وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيًّا، وَحَرَّمَ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ. (١ صم ١٥ : ٨)
وَأَرْسَلَكَ ٱلرَّبُّ فِي طَرِيقٍ وَقَالَ: ٱذْهَبْ وَحَرِّمِ ٱلْخُطَاةَ عَمَالِيقَ وَحَارِبْهُمْ حَتَّى يَفْنَوْا (١ صم ١٥ : ١٨)
وَذَهَبَ يَهُوذَا مَعَ شِمْعُونَ أَخِيهِ وَضَرَبُوا ٱلْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانَ صَفَاةَ وَحَرَّمُوهَا، وَدَعَوْا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ «حُرْمَةَ». (قض ١ : ١٧)
فَسَمِعَ ٱلرَّبُّ لِقَوْلِ إِسْرَائِيلَ، وَدَفَعَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ، فَحَرَّمُوهُمْ وَمُدُنَهُمْ. فَدُعِيَ ٱسْمُ ٱلْمَكَانِ «حُرْمَةَ». (عد ٢١ : ٣)
وَيَشُوعُ لَمْ يَرُدَّ يَدَهُ ٱلَّتِي مَدَّهَا بِٱلْمِزْرَاقِ حَتَّى حَرَّمَ جَمِيعَ سُكَّانِ عَايٍ. (يش ٨ : ٢٦)
«اِصْعَدْ عَلَى أَرْضِ مِرَاثَايِمَ. عَلَيْهَا وَعَلَى سُكَّانِ فَقُودَ. ٱخْرِبْ وَحَرِّمْ وَرَاءَهُمْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَٱفْعَلْ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ. (أر ٥٠ : ٢١)
وَأَخَذُوهَا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ، وَحَرَّمَ كُلَّ نَفْسٍ بِهَا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ حَسَبَ كُلِّ مَا فَعَلَ بِلَخِيشَ. (يش ١٠ : ٣٥)
و كان تحريم (بمعنى منع) الأشياء في العهد القديم يُعطَى كأمر مباشر من الله بالنهي عن تلك الأشياء أو أمر مباشر بفعل شيء محدد و عليه تكون مخالفته عصياناً لله، فنجد مثلاً في سفر اللاويين في الإصحاح الحادي عشر تحديداً للبهائم و الأسماك و الطيور و الدواب النجسة بصفاتها أو أسمائها أو كليهما. أما في العهد الجديد فنجد مفهوماً مختلفاً للنظر إلى الطعام و الشراب و إلى المادة عموماً من ملابس و زينة و مال و مسكن و غيرها، و هي تتلخص في قول بولس الرسول:
«كُلُّ ٱلْأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلْأَشْيَاءِ تُوافِقُ. «كُلُّ ٱلْأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لَكِنْ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ. (١ كو ٦ : ١٢)
و التي فصلها بولس الرسول أيضاً في رسالته إلى أهل رومية:
فَلَا نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱحْكُمُوا بِهَذَا: أَنْ لَا يُوضَعَ لِلْأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ. إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِسًا بِذَاتِهِ، إِلَّا مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ. فَإِنْ كَانَ أَخُوكَ بِسَبَبِ طَعَامِكَ يُحْزَنُ، فَلَسْتَ تَسْلُكُ بَعْدُ حَسَبَ ٱلْمَحَبَّةِ. لَا تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذَلِكَ ٱلَّذِي مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لِأَجْلِهِ. فَلَا يُفْتَرَ عَلَى صَلَاحِكُمْ، لِأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلَامٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. لِأَنَّ مَنْ خَدَمَ ٱلْمَسِيحَ فِي هَذِهِ فَهُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱللهِ، وَمُزَكًّى عِنْدَ ٱلنَّاسِ. فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلَامِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ. لَا تَنْقُضْ لِأَجْلِ ٱلطَّعَامِ عَمَلَ ٱللهِ. كُلُّ ٱلْأَشْيَاءِ طَاهِرَةٌ، لَكِنَّهُ شَرٌّ لِلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَأْكُلُ بِعَثْرَةٍ. حَسَنٌ أَنْ لَا تَأْكُلَ لَحْمًا وَلَا تَشْرَبَ خَمْرًا وَلَا شَيْئًا يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ. أَلَكَ إِيمَانٌ؟ فَلْيَكُنْ لَكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ ٱللهِ! طُوبَى لِمَنْ لَا يَدِينُ نَفْسَهُ فِي مَا يَسْتَحْسِنُهُ. وَأَمَّا ٱلَّذِي يَرْتَابُ فَإِنْ أَكَلَ يُدَانُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ فَهُوَ خَطِيَّةٌ. (رو ١٤ : ١٣ - ٢٣)
فلا ينظر المسيحي للمادة على أنها محللة أو محرمة، و لكن ينظر إلى أبعد من المادة، ألا و هو حياته الأبدية و حياة إخوته في الكنيسة. فإن كان الطعام أو الشراب أو غيرها من المواد الدنيوية ستتسبب في أن يُعثَر مؤمن و يخطئ فالمسيحي يتجنبها حرصاً على حياته الأبدية. يقول السيد المسيح:
ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ». أَلَا تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يَمْضِي إِلَى ٱلْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى ٱلْمَخْرَجِ؟ وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ فَمِنَ ٱلْقَلْبِ يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ (مت ١٥ : ١٠ - ١١ ، ١٧ - ١٨)
ثُمَّ دَعَا كُلَّ ٱلْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَٱفْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ ٱلْإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لَكِنَّ ٱلْأَشْيَاءَ ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ. إِنْ كَانَ لِأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ ٱلْجَمْعِ إِلَى ٱلْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ عَنِ ٱلْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هَكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلْإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلَاءِ، وَذَلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلْأَطْعِمَةِ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنَ ٱلْإِنْسَانِ ذَلِكَ يُنَجِّسُ ٱلْإِنْسَانَ. لِأَنَّهُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلْأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ (مر ٧ : ١٤ - ٢١)
و يقول أيضاً:
فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. (مت ٥ : ٢٩ و ٣٠)
وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ ٱلْعَثَرَاتِ! فَلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِهِ تَأْتِي ٱلْعَثْرَةُ! (مت ١٨ : ٧)
وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: «لَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ. (لو ١٧ : ١ و ٢)
فالمسيحية لا تحرِّم المادة في حد ذاتها أبداً و لكنها تترك مسألة المنع و الإباحة لكل إنسان حسب ضميره و إيمانه و أيضاً حسب الأشخاص المحيطين الذين قد يعثروا، و في جميع الأحوال لا ينبغي أبداً أن يُستَعبَد المسيحي للمادة بعد أن حررنا المسيح. و عليه فإن البعض قد يمتنع عما هو محلل بالطبيعة عند كل الناس لئلا يعثر الآخرين كما قال بولس الرسول:
لِذَلِكَ إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْمًا إِلَى ٱلْأَبَدِ، لِئَلَّا أُعْثِرَ أَخِي. (ا كو ٨ : ١٣)
و يلخص بولس الرسول الفلسفة في ذلك كالآتي:
إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ؟ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: «لَا تَمَسَّ! وَلَا تَذُقْ! وَلَا تَجُسَّ!» ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلِٱسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ، ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ. (كو ٢ : ٢٠ - ٢٣)
لا توجد مواد محرمة في المسيحية مطلقاً. و مصطلحا "الحرام" و "الحلال" غير موجودين في المسيحية، بل وصايا الله التي تهتم بالسلوك و بالروحانيات و ليس بالماديات. يمكن أن يعيش المسيحي في نسك متواصل و زهد في الطعام دون أن يلتزم بأيام معينة للصوم، و مع ذلك تحدد الكنيسة أياماً للصوم، و يمكن أن يحيا في حضرة الله طوال الوقت دون أن يلتزم بصلوات يومية محددة، و مع ذلك تحدد الكنيسة صلوات، و تفعل الكنيسة هذا للتذكير و لكي يشترك كل المؤمنين في وسائط النعمة و يحيوا كأعضاء في جسد المسيح الواحد.
موقف المسيحية من الخمر و السُكْر
الكتاب المقدس في عهديه القديم و الجديد لم ينهَ عن شرب الخمر و لكنه بين كيف أن السكر يذهب بالعقل و يتسبب في عصيان الله و الوقوع في الخطيئة. الخمر في العهد القديم كان رمزاً للرخاء بصفته ناتجاً من زروع الأرض، و نرى ذلك في البركة التي أعطاها إسحق ليعقوب:
فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ أَبُوهُ: «تَقَدَّمْ وَقَبِّلْنِي يَا ٱبْنِي». فَتَقَدَّمَ وَقَبَّلَهُ، فَشَمَّ رَائِحَةَ ثِيَابِهِ وَبَارَكَهُ، وَقَالَ: «ٱنْظُرْ! رَائِحَةُ ٱبْنِي كَرَائِحَةِ حَقْلٍ قَدْ بَارَكَهُ ٱلرَّبُّ. فَلْيُعْطِكَ ٱللهُ مِنْ نَدَى ٱلسَّمَاءِ وَمِنْ دَسَمِ ٱلْأَرْضِ. وَكَثْرَةَ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ. (تك ٢٧ : ٢٦ - ٢٨)
و نراه أيضاً في بركة موسى لأسباط إسرائيل:
فَيَسْكُنَ إِسْرَائِيلُ آمِنًا وَحْدَهُ. تَكُونُ عَيْنُ يَعْقُوبَ إِلَى أَرْضِ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ، وَسَمَاؤُهُ تَقْطُرُ نَدًى. (تث ٣٣ : ٢٨)
و نراه أيضاً في تهديد الملك سنحاريب لأهل أورشليم:
حَتَّى آتِيَ وَآخُذَكُمْ إِلَى أَرْضٍ مِثْلِ أَرْضِكُمْ، أَرْضِ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ، أَرْضِ خُبْزٍ وَكُرُومٍ. (أش ٣٦ : ١٧)
و كانت الخمر من ضمن التقدمات التي تقدم لله في المناسبات الدينية عند اليهود:
«وَفِي رُؤُوسِ شُهُورِكُمْ تُقَرِّبُونَ مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ: ثَوْرَيْنِ ٱبْنَيْ بَقَرٍ، وَكَبْشًا وَاحِدًا، وَسَبْعَةَ خِرَافٍ حَوْلِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَثَلَاثَةَ أَعْشَارٍ مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ تَقْدِمَةً لِكُلِّ ثَوْرٍ. وَعُشْرَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ تَقْدِمَةً لِلْكَبْشِ ٱلْوَاحِدِ. وَعُشْرًا وَاحِدًا مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ تَقْدِمَةً لِكُلِّ خَرُوفٍ. مُحْرَقَةً رَائِحَةَ سَرُورٍ وَقُودًا لِلرَّبِّ. وَسَكَائِبُهُنَّ تَكُونُ نِصْفَ ٱلْهِينِ لِلثَّوْرِ، وَثُلْثَ ٱلْهِينِ لِلْكَبْشِ، وَرُبْعَ ٱلْهِينِ لِلْخَرُوفِ مِنْ خَمْرٍ. هَذِهِ مُحْرَقَةُ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ ٱلسَّنَةِ. (عد ٢٨ : ١١ - ١٤)
وكَلَّمَ ٱلرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: مَتَى جِئْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي أَنَا أُعْطِيكُمْ وَحَصَدْتُمْ حَصِيدَهَا، تَأْتُونَ بِحُزْمَةِ أَوَّلِ حَصِيدِكُمْ إِلَى ٱلْكَاهِنِ. فَيُرَدِّدُ ٱلْحُزْمَةَ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْكُمْ. فِي غَدِ ٱلسَّبْتِ يُرَدِّدُهَا ٱلْكَاهِنُ. وَتَعْمَلُونَ يَوْمَ تَرْدِيدِكُمُ ٱلْحُزْمَةَ خَرُوفًا صَحِيحًا حَوْلِيًّا مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ. وَتَقْدِمَتَهُ عُشْرَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ، وَقُودًا لِلرَّبِّ رَائِحَةَ سَرُورٍ، وَسَكِيبَهُ رُبْعَ ٱلْهِينِ مِنْ خَمْرٍ. (لا ٢٣ : ٩ - ١٣)
و في العهد الجديد نرى أن أول معجزات السيد المسيح كانت تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل:
وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَٱفْعَلُوهُ». وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱمْلَأُوا ٱلْأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلَأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ٱسْتَقُوا ٱلْآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لَكِنَّ ٱلْخُدَّامَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱسْتَقَوْا ٱلْمَاءَ عَلِمُوا، دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَوَّلًا، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ ٱلدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ إِلَى ٱلْآنَ!». هَذِهِ بِدَايَةُ ٱلْآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلَامِيذُهُ. (يو ٢ : ١ - ١١)
لكننا نرى في الوقت ذاته أن الكتاب المقدس في العهد القديم ذكر السكر بما يسوء في سفر الأمثال:
اَلْخَمْرُ مُسْتَهْزِئَةٌ. ٱلْمُسْكِرُ عَجَّاجٌ، وَمَنْ يَتَرَنَّحُ بِهِمَا فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ. (أم ٢٠ : ١)
لَيْسَ لِلْمُلُوكِ يَا لَمُوئِيلُ، لَيْسَ لِلْمُلُوكِ أَنْ يَشْرَبُوا خَمْرًا، وَلَا لِلْعُظَمَاءِ ٱلْمُسْكِرُ. (أم ٣١ : ٤)
و ذكر السكر كصفة من صفات الابن العاق:
«إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ٱبْنٌ مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لَا يَسْمَعُ لِقَوْلِ أَبِيهِ وَلَا لِقَوْلِ أُمِّهِ، وَيُؤَدِّبَانِهِ فَلَا يَسْمَعُ لَهُمَا. يُمْسِكُهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَأْتِيَانِ بِهِ إِلَى شُيُوخِ مَدِينَتِهِ وَإِلَى بَابِ مَكَانِهِ، وَيَقُولَانِ لِشُيُوخِ مَدِينَتِهِ: ٱبْنُنَا هَذَا مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لَا يَسْمَعُ لِقَوْلِنَا، وَهُوَ مُسْرِفٌ وَسِكِّيرٌ. فَيَرْجُمُهُ جَمِيعُ رِجَالِ مَدِينَتِهِ بِحِجَارَةٍ حَتَّى يَمُوتَ. فَتَنْزِعُ ٱلشَّرَّ مِنْ بَيْنِكُمْ، وَيَسْمَعُ كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَيَخَافُونَ. (تث ٢١ : ١٨ - ٢١)
و نهى الله الكهنة عن شرب الخمر عند دخولهم إلى خيمة الاجتماع (و هي ما يقابل هيكل سليمان في فترة ما قبل بناء الهيكل) و كانت عقوبة مخالفة هذه الوصية الموت:
وَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ هَارُونَ قَائِلًا: «خَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ ٱلِٱجْتِمَاعِ لِكَيْ لَا تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ ٱلْمُقَدَّسِ وَٱلْمُحَلَّلِ وَبَيْنَ ٱلنَّجِسِ وَٱلطَّاهِرِ (لا ١٠ : ٨ - ١٠)
«أَمَّا ٱلْكَهَنَةُ ٱللَّاوِيُّونَ أَبْنَاءُ صَادُوقَ ٱلَّذِينَ حَرَسُوا حِرَاسَةَ مَقْدِسِي حِينَ ضَلَّ عَنِّي بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَهُمْ يَتَقَدَّمُونَ إِلَيَّ لِيَخْدِمُونِي، وَيَقِفُونَ أَمَامِي لِيُقَرِّبُوا لِي ٱلشَّحْمَ وَٱلدَّمَ، يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ..... وَلَا يَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَلَا يُرَبُّونَ خُصَلًا، بَلْ يَجُزُّونَ شَعْرَ رُؤُوسِهِمْ جَزًّا. وَلَا يَشْرَبُ كَاهِنٌ خَمْرًا عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلدَّارِ ٱلدَّاخِلِيَّةِ. (حز ٤٤ : ١٥ و ٢٠ - ٢١)
و عندما كانت حنة أم صموئيل تصلي بمرارة عند قائمة الهيكل (من الخارج) حتى ظنها عالي الكاهن سكرانة انتهرها، و نفت عن نفسها السكر كبنات بليعال (عبدة الوثن بليعال) مما يوضح نظرة اليهود الدونية للسكر.
وَكَانَ إِذْ أَكْثَرَتِ ٱلصَّلَاةَ أَمَامَ ٱلرَّبِّ وَعَالِي يُلَاحِظُ فَاهَا. فَإِنَّ حَنَّةَ كَانَتْ تَتَكَلَّمُ فِي قَلْبِهَا، وَشَفَتَاهَا فَقَطْ تَتَحَرَّكَانِ، وَصَوْتُهَا لَمْ يُسْمَعْ، أَنَّ عَالِيَ ظَنَّهَا سَكْرَى. فَقَالَ لَهَا عَالِي: «حَتَّى مَتَى تَسْكَرِينَ؟ ٱنْزِعِي خَمْرَكِ عَنْكِ». فَأَجَابَتْ حَنَّةُ وَقَالَتْ: «لَا يَا سَيِّدِي. إِنِّي ٱمْرَأَةٌ حَزِينَةُ ٱلرُّوحِ وَلَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا وَلَا مُسْكِرًا، بَلْ أَسْكُبُ نَفْسِي أَمَامَ ٱلرَّبِّ. لَا تَحْسِبْ أَمَتَكَ ٱبْنَةَ بَلِيَّعَالَ، لِأَنِّي مِنْ كَثْرَةِ كُرْبَتِي وَغَيْظِي قَدْ تَكَلَّمْتُ إِلَى ٱلْآنَ» (١ صم ١ : ١٢ - ١٦)
و كذلك عندما بشر الملاك بميلاد شمشون و قال لأمه أنه سيكون نذيراً للرب، أمرها ألا تشرب خمراً و لا مسكراً:
وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ صُرْعَةَ مِنْ عَشِيرَةِ ٱلدَّانِيِّينَ ٱسْمُهُ مَنُوحُ، وَٱمْرَأَتُهُ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدْ. فَتَرَاءَى مَلَاكُ ٱلرَّبِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ لَهَا: «هَا أَنْتِ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدِي، وَلَكِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْنًا. وَٱلْآنَ فَٱحْذَرِي وَلَا تَشْرَبِي خَمْرًا وَلَا مُسْكِرًا، وَلَا تَأْكُلِي شَيْئًا نَجِسًا. فَهَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْنًا، وَلَا يَعْلُ مُوسَى رَأْسَهُ، لِأَنَّ ٱلصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيرًا لِلهِ مِنَ ٱلْبَطْنِ، وَهُوَ يَبْدَأُ يُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ» (قض ١٣ : ٢ - ٥)
ثم نقرأ صراحة في سفر أشعياء عن مدمني الخمر الذين يبكرون فيشربونه:
وَيْلٌ لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحًا يَتْبَعُونَ ٱلْمُسْكِرَ، لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي ٱلْعَتَمَةِ تُلْهِبُهُمُ ٱلْخَمْرُ (أش ٥ : ١١)
و كذلك في العهد الجديد قبل ميلاد المسيح نقرأ أن الملاك حين بشر زكريا بميلاد يوحنا المعمدان قال له إنه لا يشرب خمراً:
لِأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ (لو ١ : ١٥)
و نرى بعد ذلك في العهد الجديد أن المسيح يصف العبد الرديء بأنه كان يسكر:
وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ ٱلْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ، فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْغِلْمَانَ وَٱلْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. يَأْتِي سَيِّدُ ذَلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْخَائِنِينَ (لو ١٢ : ٤٥ - ٤٦)
و يقول بولس الرسول في رسالته إلى تيطس عن السلوك اللائق بالعجائز:
كَذَلِكَ ٱلْعَجَائِزُ: فِي سِيرَةٍ تَلِيقُ بِٱلْقَدَاسَةِ، غَيْرَ ثَالِبَاتٍ، غَيْرَ مُسْتَعْبَدَاتٍ لِلْخَمْرِ ٱلْكَثِيرِ، مُعَلِّمَاتٍ ٱلصَّلَاحَ (تي ٢ : ٣)
و يقول أيضاً صراحة في موضعين آخرين إن السكيرين لا يرثون ملكوت الله، أي أن إدمان الخمر خطيئة عظيمة تحرم الإنسان من دخول الملكوت:
وَلَا سَارِقُونَ وَلَا طَمَّاعُونَ وَلَا سِكِّيرُونَ وَلَا شَتَّامُونَ وَلَا خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ (١ كو ٦ : ١٠)
حَسَدٌ، قَتْلٌ، سُكْرٌ، بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ (غل ٥ : ٢١)
و يتضح من هذا كله أن السكر و إدمان الخمر خطيئة في المسيحية، حتى و إن كانت الخمر ذاتها غير محرمة كما وضحت قبلاً.
أمثلة من الكتاب المقدس توضح بشاعة السُكْر
و نجد في الكتاب المقدس أمثلة توضح لنا كيف أن السكر يؤدي إلى الاستهزاء و إلى الخطيئة. فنجد نوحاً قد تعرى عندما سكر:
وَٱبْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ ٱلْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ (تك ٩ : ٢٠ - ٢١)
و نجد أن بنات لوط حين أردن أن يقمن منه نسلاً أسكرنه:
وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي ٱلْجَبَلِ، وَٱبْنَتَاهُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي ٱلْمَغَارَةِ هُوَ وَٱبْنَتَاهُ. وَقَالَتِ ٱلْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي ٱلْأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ ٱلْأَرْضِ. هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجِعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ ٱلْبِكْرُ وَٱضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِٱضْطِجَاعِهَا وَلَا بِقِيَامِهَا. وَحَدَثَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ ٱلْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ ٱضْطَجَعْتُ ٱلْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا ٱللَّيْلَةَ أَيْضًا فَٱدْخُلِي ٱضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ ٱلصَّغِيرَةُ وَٱضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِٱضْطِجَاعِهَا وَلَا بِقِيَامِهَا، فَحَبِلَتِ ٱبْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. فَوَلَدَتِ ٱلْبِكْرُ ٱبْنًا وَدَعَتِ ٱسْمَهُ «مُوآبَ»، وَهُوَ أَبُو ٱلْمُوآبِيِّينَ إِلَى ٱلْيَوْمِ. وَٱلصَّغِيرَةُ أَيْضًا وَلَدَتِ ٱبْنًا وَدَعَتِ ٱسْمَهُ «بِنْ عَمِّي»، وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى ٱلْيَوْمِ. (تك ١٩ : ٣٠ - ٣٨)
إحصاءات عن الخمر و الأمراض المتسببة عنها
أذكر هنا بعض الإحصاءات الكندية من عام ٢٠١٠ عن استخدام الكحوليات في كندا، و قد اخترت كندا لعدة أسباب، فأنا كندي مصري و أعيش في كندا، و تضم كندا سكاناً من كافة أجناس و أعراق الأرض فيمكن اعتبارها عينة من سكان الأرض، كما أن الديانة الغالبة على سكانها هي المسيحية التي لا تحرم الخمر، و المجتمع الكندي عموماً لا ينظر للخمر نظرة التحريم و لكنه يعي تماماً الأخطار التي يمكن أن تنتج من الاستخدام السيء أو الإفراط في شرب الخمر.
نسبة المستخدمين للكحوليات بإفراط في الكم و التردد على الشرب ٤.٣٪ و من هؤلاء (و ليس كلهم) مدمني الخمر، و نسبة الذين يفرطون في استخدام الكحوليات كماً و لكن بصفة متقطعة ٤.٦٪، و من هؤلاء الذين قد يسكرون في الحفلات و لكنهم ليسوا مدمنين للخمر، و نسبة الذين يشربون قليلاً من الخمر بصفة شبه مستمرة ٣٢.٢٪، و من هؤلاء من يفضل أن يشرب كأساً من النبيذ مع الغذاء مثلاً، و نسبة الذين يشربون قليلاً من الخمر بصفة متقطعة ٣٥.٧٪، و منهم من يشرب الخمر في المناسبات فقط، و نسبة الذين شربوا خمراً من قبل لكن لم يفعلوا ذلك خلال العام السابق للإحصاء ١٢٪، و نسبة من لم يذوقوا الخمر مطلقاً في حياتهم ١١.٢٪، و في المقابل نجد مثلاً أن نسبة المدخنين بصفة يومية ١٧٪ و المدخنين السابقين ٢٦٪ و الذين لم يدخنوا قط ٥٧٪، مما يعكس وعي المجتمع بالأضرار الصحية للتدخين (٥٧٪ لم يدخنوا في مقابل ١١.٢٪ لم يشربوا الخمر) و انتشار إدمان التبغ أكثر من إدمان الخمر (١٧٪ تدخين يومي في مقابل ٤.٣ على الأكثر إدمان خمر)
و الطريف و الجدير بالذكر أن شرب الكحوليات بصفة معتدلة و منتظمة لا ينتج عنه ضرر بقدر فائدته، فهو يحمي من أمراض الشرايين التاجية في القلب، و ذلك بحسب توصيات اتحاد القلب الأمريكي (American Heart Association ) لعام ٢٠٠٦، و لكن لا يعد هذا مبرراً للإفراط في شرب الخمر مطلقاً، حيث أن أخطار ذلك على الصحة و المجتمع معروفة للجميع.
الإفراط في شرب الكحوليات يؤدي إلى تليف الكبد حتماً، و قد يلي ذلك الفشل الكلوي، كما أنه يؤثر سلباً على وظائف المخ، و قد يؤدي إلى السمنة نظراً لارتفاع القيمة السعرية له، و قد يؤدي أيضاً لأمراض سوء التغذية، و في المرأة الحامل يؤدي إلى حدوث متلازمة الجنين الكحولية (Fetal Alcohol Syndrome) التي تتسبب في التأخر العقلي و بعض العيوب الخلقية في المولود. هذا كله إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية للإدمان من فقدان القوة البشرية المنتجة و ضياع الأموال و انتشار الجرائم كالسرقة و الدعارة، و حدوث التفكك الأسري و التنشئة الفاسدة للأطفال.
و نرى من واقع الأرقام السابقة أن ليس كل من يشرب الخمر يدمنها، و لا كل من يشرب الخمر يسكر بها، و المجتمعات الغربية تحاول التخلص من مشاكل شرب الخمر و ليس من الخمر ذاتها، فتقوم بحملات التوعية ضد قيادة السيارات تحت تأثير الخمر و تسن القوانين لذلك، و في بعض الدول ككندا يُمْنَع شرب الخمر في الأماكن العامة عدا المخصصة لهذا الغرض، و تُوَفَّر المساعدة لمدمني الخمر للتخلص من إدمانهم. تجريم بيع و صناعة الخمر حل عقيم ثبت فشله بالتجربة العملية، لأن الخمر يمكن صنعه بسهولة في المنازل و بخامات متوفرة و رخيصة.
القليل من الخمر
وردت آية في الكتاب المقدس في رسالة معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس يستخدمها أحياناً بعض صغار النفوس في تبرير الإفراط في شرب الخمر:
لَا تَكُنْ فِي مَا بَعْدُ شَرَّابَ مَاءٍ، بَلِ ٱسْتَعْمِلْ خَمْرًا قَلِيلًا مِنْ أَجْلِ مَعِدَتِكَ وَأَسْقَامِكَ ٱلْكَثِيرَةِ (١ تي ٥ : ٢٣)
و الواقع أن بولس الرسول كان يصف لتلميذه ما كان متبعاً وقتها في التداوي، و لم يكن يتكلم بصفة عامة. نجد في رسائل بولس الرسول العديد من المواقع التي يتحدث فيها عن أمور مختصة بالوقت الذي كتبت فيه الرسائل، و لا بد من تمييز هذه المواضع عن غيرها لكي لا نقع في الخطأ. لا يمكن أن يقول بولس الرسول إن السكير لا يرث الملكوت ثم ينصح تلميذه بفرط شرب الخمر. و الحقيقة أن الكلمات لا تحتاج لتفسير أكثر لأنه يقول "خمراً قليلاً". و لكن وجب الذكر لتكميل المعنى و المحتوى.
الخاتمة و الخلاصة
لا يوجد تحريم و تحليل للمادة في المسيحية. تهتم المسيحية بالسلوك و الروحانيات أكثر بكثير من المظاهر و المادة. شرب الخمر ليس خطيئة في المسيحية و إنما السكر و إدمان الخمر هو الخطيئة التي قد تتبعها خطايا أخرى ناتجة عن ذهاب العقل و العبودية للخمر. القليل من الخمر فعلاً له فائدة صحية كما أثبتت الأبحاث، غير أن الفائدة ليست للمعدة كما كان شائعاً أيام بولس الرسول، و يجب على المسيحي أن يكون عنده التمييز اللازم لئلا يقع في بئر الإدمان. من يخشى من المسيحيين أن يدمن الخمر و من لا يعرف متى يتوقف عن شرب الخمر قبل أن يسكر عليه ألا يشربها مطلقاً و ذلك بناء على قول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية الإصحاح ١٤. الخمر في المسيحية كأي مادة أخرى مثل الملح أو الدهون أو السكريات. الإفراط الزائد في الاستخدام له مشاكل صحية. ليس المسيحي بسكير و لا المسيحية تبيح السكر و لا إدمان الخمر.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق