في هذا المقال شرح مبسط جداً لمفهوم السببية، ولكنه تبسيط مخل! أعمل على مقال عن السببية، وحين أنتهي منه سأضع رابطاً له.
نبدأ بسؤال في منتهى الأهمية و هو: هل هناك علاقة سببية أو شرطية بين الدين و التقدم الحضاري؟
والعلاقة السببية تتميز بشيئين أولهما هو ارتباط الحدوث والثاني هو التتابع الزمني. بمعنى أن السبب والمُسَبَّب يرتبط وجود أحدهما بالآخر ارتباطاً قوياً من الناحية الإحصائية، أو بمعنى آخر أن وجود السبب يستتبعه احتمال عالٍ لوجود المُسَبَّب، ووجود المُسَبَّب يستتبعه احتمال عالٍ لوجود السبب (وفي حالة السبب الوحيد فإن وجود المُسَبَّب يستلزم بالضرورة وجود السبب). والتتابع الزمني يعني أن السبب دائماً ما يسبق المُسَبَّب، والعكس غير ممكن. أي أننا لو فرضنا أن الحدث (ح) ينتج من السبب (س)، فإن (س) لا بد أن يسبق زمنياً حدوث (ح)، وحدوث (س) يعني أن احتمال حدوث (ح) كبير، وحدوث (ح) يعني أن احتمال أن (س) قد حدث بالفعل كبير، وإذا كان (س) هو السبب الوحيد للحدث (ح) فإن حدوث (س) يعني أن احتمال حدوث (ح) كبير، وحدوث (ح) يعني حتمية أن (س) قد حدث بالفعل.
أما في العلاقة الشرطية، فوجود الشرط لازم لوجود المشروط وليس سبباً في وجوده. بمعنى أن وجود الشرط قد يصاحبه وجود المشروط أو لا يصاحبه، لكن وجود المشروط يستلزم بالضرورة وجود الشرط. أي أننا لو فرضنا أن (ش) شرط لحدوث (ح)، فإن حدوث (ح) يعني وجود (ش) بالضرورة، بينما وجود (ش) في حد ذاته لا يعطي أي معلومات عن احتمالية حدوث (ح) من عدمه.
فإذا كانت العلاقة بين الدين والتقدم الحضاري علاقة سببية لكان وجود الدين و التدين في أي مجتمع مصحوباً باحتمال كبير لوجود التقدم الحضاري، ولكان وجود التقدم الحضاري يستلزم وجوداً للدين والتدين سابقاً على التقدم الحضاري. وإن كانت العلاقة شرطية لكان وجود التقدم الحضاري غير ممكن على الإطلاق من دون وجود الدين. والحقيقة أنه لا توجد هذه العلاقة ولا تلك، ولنا في التاريخ البشري أمثلة عديدة من أقدم عصور البشرية إلى أحدثها تؤكد أن الدين والتدين ليسا من أسباب التقدم الحضاري ولا هما شرطاً له.
لك أن تتخيل مثلاً الإنسان البدائي الذي اخترع العجلة أو طوَّع النار للطهي وصناعة مواد البناء، هل كانت هذه الإنجازات الحضارية (مقارنة بزمنها بالطبع) مرتبطة بأي شكل بالدين أو التدين؟ وفي الحضارة المعاصرة، فإننا نجد تقدماً حضارياً في بلاد يقل فيها الاهتمام بالدين بدرجة كبيرة كدول اسكندنافيا، وتخلفاً حضارياً عميقاً في بلاد أخرى يبدو أنها تعطي الدين أهمية كبيرة مثل موريتانيا والصومال وأفغانستان.
لكن مما لا شك فيه أن الحضارة طُوِّعت لخدمة الدين على مر العصور، ويبدو أن أهم الإنجازات الحضارية التي طوِّعت لخدمة الدين العمارة والفلك، فنجد في العديد من الحضارات القديمة والحديثة مباني ضخمة و مهيبة بنيت لأغراض دينية، ونجد التقدم في حساب الأوقات والأزمان فلكياً طُوِّع لحساب المناسبات الدينية، وارتبطت حركات الأجرام السماوية ببعض الديانات القديمة. والمثير للاهتمام في هذا كله أن الإنسان يبدو أنه لم يطوِّر شيئاً أو يبتكره فقط لخدمة الدين، وإنما كان يستخدم حضارته البشرية لخدمة الدين، وحتى ما يبدو من التطور خادماً للدين وحده كالتحنيط عند قدماء المصريين لا نعلم عنه الكثير ولا نعلم أصل هذا العلم وكيف نشأ وهل نشأ أولاً ثم طوِّع لخدمة الدين أم أنه نشأ أصلاً لخدمة الدين.
ولطالما سمعت من بعض الأصدقاء أن الدين والتدين يرتقيان بالسلوك الإنساني مما ينتج عنه ازدهار في الحضارة. وأؤكد هنا أن الدين لم يزل في نظري ونظرهم أيضاً لا سبباً ولا شرطاً للحضارة، وإنما يعتبرونه من العوامل المساعدة للارتقاء بالحضارة البشرية. ولهم أوجه بعض أسئلة علها تزيل هذا الالتباس من عقولهم. هل كانت إمبراطورية المغول التي شملت معظم قارة آسيا و جزءاً من قارة أوروبا مبنية على الدين؟ هل أثر الدين على التقدم الحضاري للإمبراطورية اليونانية أيام الإسكندر الأكبر الذي قاد جيشه فاتحاً العديد من البلاد بهدف استرجاع كرامة اليونان؟ هل أثر الدين على التقدم الحضاري للدولة الرومانية أيام فتوحات يوليوس قيصر؟ وماذا حدث لتلك الدولة حضارياً بعد أن حاول أن يصير ديكتاتوراً مؤلهاً؟
وفي الحضارة الحديثة، هل تجد هناك أي ارتباط بين تدين العالِم وعلمه؟ أنا شخصياً أعرف العديد من العلماء من أديان مختلفة، ومنهم المتدين وغير المتدين، ومنهم من يؤمن بوجود إله ومنهم الملحد، ومنهم من هو على خُلُق ومنهم من في خلقه آفة، ولم أجد ارتباطاً على الإطلاق بين درجة التدين ومقدار العلم أو بين دين ما والرغبة في اكتشاف الجديد وسبر أغوار المجهول، أو بين الخُلُق وبين القدرة على الابتكار والتطوير.
فمن أين يأتي وهم ارتباط التقدم بالدين والتدين إذاً؟ لا أظن أن هذا الارتباط قائم إلا في عقول بعض أصدقائي من المسلمين تحديداً، وأقول البعض و ليس الكل. ولست أعرف علماء من كل أديان الأرض كي أدعي أن هذه قاعدة مطلقة، ولكن هذه ملاحظتي الشخصية وليست تعميماً مطلقاً. والحقيقة لا أدري لماذا عندما أقرر أنه لا علاقة بين التدين و التقدم الحضاري أجد من أصدقائي المسلمين دون غيرهم من ينبري دفاعاً عن أهمية الدين في حياة البشر، ولم أدَّعِ أبداً أن الدين ليس مهماً ولم أدْعُ لترك الدين، و إنما أؤمن أن الدين علاقة بين الإنسان وربه لا دخل لها بقدرة الإنسان على التعلم والتفكير والابتكار والتطوير.
فإن كان هناك في الإسلام ما يربط الدين ربطاً وثيقاً بالتحضر فأخبروني به عافاكم الله، فلست أعلم في المسيحية أو اليهودية له مثيلاً وأنا أدين بإحداهما ودارس جيّد للأخرى، وفسروا لي كيف أن بلاداً تدَّعي التمسك بالإسلام وتطبيق شرعه هي نماذج التخلف الحضاري والهمجية في عالمنا. إن كان ارتباط التدين بالتقدم الحضاري أمراً غير قاصر على الإسلام، فهناك العديد من الأمثلة التي تنفي ذلك نفياً باتاً، وإن كان قاصراً على الإسلام فأخبروني وفسروا لي الواقع الذي يؤكد لنا أن بلاداً مسلمة مثل تركيا وإندونيسيا لا ينصب همها على الدين هي نماذج للتقدم الحضاري، بينما بلاد أخرى مسلمة تدعي أن الدين شغلها الشاغل هي نماذج للتخلف الحضاري العميق، وأرجو ألا يقول منكم قائل أن نماذج التخلف لا تطبق الإسلام الصحيح، فما هو في نظرك غير صحيح يحتل أعلى مراتب الصحة في نظر هؤلاء، فإما أن نفصل علاقة الدين بالتقدم مطلقاً كسبب أو شرط و إما أن نقبل بهذا النموذج من الفشل الحضاري دليلاً على انتفاء العلاقة بين التدين والتقدم الحضاري.
أسوق مثالاً آخر يدلل على وجهة نظري. في هذا الرابط سوف تجد قائمة بالعلماء الملحدين الذين أسهموا بالعديد من الإنجازات والاكتشافات والنظريات التي ساعدت على تقدم البشرية. هؤلاء قوم ملحدون لا يؤمنون أساساً بوجود الله، ولم يعقهم ذلك عن تحقيق التقدم العلمي الحضاري، ومنهم العديدون من الحاصلين على جائزة نوبل. وليس هذا في مجال العلم وحسب، بل في مختلف المجالات، وهذا الرابط يعدد خمسين من الملحدين المشهورين في الفلسفة والفنون والموسيقى والرياضيات والعلوم والاقتصاد.
يصعب علي جداً بعد ذلك كله أن أقتنع أن الدين أو التدين مرتبطان بالتقدم الحضاري بعلاقة سببية أو شرطية. و لا أرى في ذلك عيباً ولا سباباً في الإسلام ولا في أي دين آخر، وإنما أرى فيه رؤية منطقية غير متحيزة للواقع، ولا أدري لماذا يصر البعض على ربط التدين بالتقدم الحضاري كسبب أو شرط، ولا أدري لماذا يغضبون ويُستَفَزون بشدة عندما أؤكد أن الدين لا علاقة له بالتقدم الحضاري إلا في عقولهم فقط.
يا سادة يا كرام يا أولي الألباب، الحضارات قامت منذ فجر التاريخ بدون وجود الإسلام ولا غيره من الأديان، وقامت في ظل وجود أديان وثنية انقرضت من على وجه الأرض، وكذلك قامت الحضارة في وجود المسيحية والإسلام وتدهورت الحضارة وعم التخلف في وجود المسيحية والإسلام، وكذلك الحال بالنسبة للأديان الأخرى على وجه الأرض في يومنا هذا. لن يدفعكم للتقدم الاستمساك بعرى الدين الوثقى ولا تطبيق شرع الله في الأرض، ولكن سيدفعكم وينفعكم النظام والعمل والاجتهاد والمثابرة. هذه هي مقومات الحضارة وأسبابها وليس الدين، وإن لم تعوا هذا سريعاً فسيتقدم العالم تاركاً إياكم خلفه تحاولون تحقيق الحضارة بالتدين. تدينوا كيفما شئتم ودينوا بأي دين شئتم، لكن اعلموا أن هذا لا علاقة له البتة بالتقدم الحضاري.
من له أذنان للسمع فليسمع
نسب المصنفات
باستثناء المصنفات المنسوبة فيما يلي، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
- الأهرام المصرية بالجيزة: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- معبد البارثينون: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- الكولوسيوم الروماني: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- جرفين فارسي: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- معبد هندي: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- باجودا صيني: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- مقراب هابل: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق