بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 أغسطس 2019

\(8÷2(2+2)=?\)

وجدت على تويتر هذا السؤال الذي يبدو لي سهلاً ومع ذلك اختلف عليه عدد لا بأس به من الناس، فمنهم من حسب قيمة هذا التعبير الرياضي كالآتي

\(8\div2\times(\color{red}{2+2})=\color{red}{8\div2}\times4=4\times4=16\)
ومنهم من حسبها كالآتي
\(8\div2\times(\color{red}{2+2})=8\div\color{red}{2\times4}=8\div8=1\)
ولأن الرياضيات ليس فيها مجال للغموض، ولأن التعبير الرياضي لا يصح أن يكون له أكثر من طريقة في التقييم، فإنني أؤيد وبشدة الطريقة الأولى، ولأن الرياضيات لا يصح فيها الآراء الشخصية، بل يحكم الاستنتاجات الرياضية المنطق وحده، فلا بد لي من إبداء الأسباب التي من أجلها أؤيد هذا الرأي بشدة.

رتب العمليات الحسابية

أبسط صورة من صور العمليات الرياضية تتمثل في عد الأعداد الصحيحة whole numbers بدءًا من الصفر وصعوداً نحو اللانهاية، وهذه المجموعة من الأعداد تعرف في الرياضيات بالأعداد الطبيعية natural numbers. العد counting هو أول ما يتعلمه الأطفال عن الرياضيات، وتعتبر عملية العد العملية الأساسية التي يمكن اجراؤها على الأرقام، ولذلك تسمى بالعملية ذات الرتبة الصفرية zero-order operation.

يلي عملية العد في التعقيد عمليتا الجمع والطرح، والجمع هو عد متتابع sequential counting في الاتجاه الموجب للأعداد بينما الطرح عد في الاتجاه السالب. وتوضح الصورة بالأسفل عملية الجمع \(3+5=8\) وعملية الطرح \(7-6=1\). ونجد أن الأطفال يتعلمون الجمع والطرح بعد تعلمهم العد، لأن هاتين العمليتين معرفتان باستخدام العد، ولهذا يطلق على عمليتي الجمع والطرح عمليات ذات رتبة أولى first-order operations.

ثم يلي ذلك عمليتا الضرب والقسمة، وهما عبارة عن جمع متتابع (بالنسبة للضرب) أو طرح متتابع (بالنسبة للقسمة). على سبيل المثال، حاصل ضرب \(3\) في \(5\) يتم حسابه عن طريق جمع \(3\) على نفسها \(5\) مرات متتابعة.

\(3\times5=3+3+3+3+3=15\)
أما خارج قسمة \(22\) على \(8\) فيتم حسابه عن طريق الطرح المتتابع للعدد \(8\) من العدد \(22\) حتى يتبقى عدد موجب أقل من \(8\).
\(\begin{aligned} 22-8 & =14 \\ 14-8 & =6 \end{aligned}\)
ومن ذلك نقول أن خارج قسمة \(22\) على \(8\) هو \(2\) مع باقي \(6\).

ولأن عمليتي الضرب والقسمة على مستوى أعلى من التعقيد من عمليات الجمع والطرح، ولأنهما معرفتان باستخدام الجمع والطرح، فإن هاتين العمليتين يسميان عمليات ذات رتبة ثانية second-order operations. ولهذا أيضاً نجد أن الأطفال يتعلمون الضرب والقسمة بعد تعلمهم الجمع والطرح.

أما عملية الرفع إلى أس exponentiation فهي معرفة باستخدام الضرب، والرفع إلى أس صحيح ما هو إلا ضرب متتابع، فمثلاً قيمة \(2^5\) يتم حسابها عن طريق ضرب \(2\) في نفسها \(5\) مرات.

\(2^5=2\times2\times2\times2\times2=32\)
وهكذا فإن عملية الرفع إلى أس أعقد من الضرب والقسمة، ولهذا تسمى عملية ذات رتبة ثالثة third-order operation ونجد أن الطلاب يتعلمون هذه العملية بعد تعلمهم الضرب والقسمة. ويستمر تسلسل العمليات بعد الرفع إلى أس، لكن العمليات ذات الرتبة الأكبر يزداد تعقيدها بشكل كبير وليس لها استخدام مباشر في التطبيقات العملية الشائعة، وغالباً لا يعلم عنها سوى من يحتاجها في الدراسة الأكاديمية أو في بعض المجالات القليلة جداً (منها علوم الحاسب الآلي) التي تستخدمها في التعامل مع الأرقام فائقة الكبر.

خاصية التجميع

عند تتابع أكثر من عملية حسابية من نفس الدرجة، يصير من المهم تحديد أسبقية إجراء العمليات لأن العمليات السابقة كلها (باستثناء العد) عمليات ثنائية binary أي تستقبل قيمتين operands اثنين وتنتج قيمة واحدة (باستثناء عملية القسمة عند إجرائها على الأعداد الصحيحة). وهكذا، يصير من المهم تحديد أسبقية إجراء العمليات في تعبير مثل \(5+4+1\)، ونجد أن ترتيب إجراء العمليات لا يؤثر في الناتج في عمليات الجمع والضرب.

\(\begin{aligned} \color{red}{5+4}+1 & =9+1=10 & \color{green}\checkmark & \quad & \color{red}{3\times2}\times4 & = 6\times4=24 \\ 5+\color{red}{4+1} & =5+5=10 & \color{green}\checkmark & \quad & 3\times\color{red}{2\times4} & = 3\times8=24 \end{aligned}\)
وليس هكذا الأمر في عمليات الطرح والقسمة، فعلى سبيل المثال
\(\begin{aligned} \color{red}{7-5}-3 & =2-3=-1 & \color{green}\checkmark & \quad & \color{red}{32\div4}\div2 & = 8\div2=4 \\ 7-\color{red}{5-3} & =7-2=5 & \color{red}{\text{X}} & \quad & 32\div\color{red}{4\div2} & = 32\div2=16 \end{aligned}\)
والاتفاق العام الذي يعد قاعدة رياضية الآن هو أن عمليتي الطرح والقسمة يتم إجراؤهما من الأول إلى الآخر حسب اتجاه الكتابة، ويعني ذلك أنها تُجرَى من اليسار إلى اليمين في اللغات اللاتينية مثل الإنجليزية والفرنسية ومن اليمين إلى اليسار في العربية، وفي هذه التدوينة استخدم الحروف اللاتينية في كتابة الرموز الرياضية، ولهذا فإن القاعدة تعني التقييم من اليسار إلى اليمين، أي أن السطر الأول هو ما يمثل القاعدة الصحيحة.

ويطلق على عمليتي الجمع والضرب عمليات تجميعية associative لأن تجميع العمليات من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين لا يغير من الناتج، أما عمليتا الطرح والقسمة فيطلق عليهما عمليات تجميعية إلى اليسار left-associative (أو إلى اليمين في حالة الكتابة من اليمين إلى اليسار). أما عملية الرفع إلى أس فهي تجميعية إلى اليمين right-associative وعلى الرغم من أننا لا نحتاج لمناقشة هذه العملية للإجابة عن السؤال الموضوع في العنوان، إلا انني أذكر هذا من قبيل اكتمال المعلومة وتوضيح النوع الثالث من العمليات التجميعية.

\(\begin{aligned} 2^\color{red}{3^2} & =2^9=512 & \quad \color{green}\checkmark \\ \color{red}{2^3}^2 & =8^2=64 & \quad \color{red}{\text{X}} \end{aligned}\)

أولوية إجراء العمليات الحسابية

إذا تتابع أكثر من عملية حسابية ليست من نفس النوع، فأيهم يتم إجراؤه أولاً؟ وهل هذا يؤثر على الناتج؟ دعونا نرى كيف تؤثر أولوية إجراء العمليات الحسابية precedence of operations على ناتج التعبير \(30\div2+3\times5\).

  1. إجراء العمليات من اليسار إلى اليمين ينتج عنه التالي
    \(\color{red}{30\div2}-5\times2 =\color{red}{15-5}\times2 = \color{red}{10\times2} = \color{blue}{20}\)
  2. إجراؤها من اليمين إلى اليسار ينتج عنه التالي
    \(30\div2-\color{red}{5\times2} =30\div\color{red}{2-10} = \color{red}{30\div(-8)} = \color{blue}{-3\tfrac{3}{4}}\)
  3. إجراء عملية الضرب أولاً ثم القسمة ثم الطرح ينتج عنه التالي
    \(30\div2-\color{red}{5\times2} =\color{red}{30\div2}-10 = \color{red}{15-10} = \color{blue}{5}\)
  4. إجراء الضرب ثم الطرح ثم القسمة مكافئ لإجراء العمليات من اليمين إلى اليسار
  5. إجراء القسمة أولاً ثم الضرب ثم الطرح ينتج عنه التالي
    \(\color{red}{30\div2}-5\times2 =15-\color{red}{5\times2} = \color{red}{15-10} = \color{blue}{5}\)
  6. إجراء القسمة ثم الطرح ثم الضرب مكافئ لإجراء العمليات من اليسار إلى اليمين
  7. إجراء الطرح ثم القسمة ثم الضرب ينتج عنه
    \(30\div\color{red}{2-5}\times2 =\color{red}{30\div(-3)}\times2 = \color{red}{(-10)\times2} = \color{blue}{-20}\)
  8. إجراء الطرح ثم الضرب ثم القسمة ينتج عنه
    \(30\div\color{red}{2-5}\times2 =30\div\color{red}{(-3)\times2} = \color{red}{30\div(-6)} = \color{blue}{-5}\)

قد يبدو للوهلة الأولى أن تبديل أولوية القسمة مع الضرب لا يؤثر على الناتج حيث أن الناتج في الحالة 3 والحالة 5 متماثل، لكن بالنظر إلى الحالتين 7 و 8 نجد أن تبديل أولوية القسمة مع الضرب قد أثر على الناتج. هذا يعني أن أولوية إجراء العمليات ذات أهمية قصوى في الرياضيات، وإلا صار للتعبير الرياضي أكثر من قيمة ممكنة، وهو شيء غير مقبول على الإطلاق في مجال الرياضيات، فمن القواعد الأساسية في الكتابة الرياضية أن التعبير الواحد لا يمكن فهمه إلا بمفهوم واحد في السياق الواحد، وهكذا ينتفي الغموض ambiguity أو الالتباس confusion عن الكتابة الرياضية.

ونظراً لرتب العمليات الرياضية الموضحة أعلاه، فالقاعدة أن العمليات ذات الرتب الأعلى لها أولوية أكبر في الإجراء. وهنا نواجه مشكلة صغيرة وهي أن بعض العمليات لها نفس الرتبة، فالجمع والطرح من الرتبة الأولى، والضرب والقسمة من الرتبة الثانية. في هذه الحالة تجرى العمليات من اليسار إلى اليمين، إذ أن اتجاه إجراء العمليات لا يؤثر على ناتج الجمع أو الضرب، بينما القاعدة في الاتجاه هي الإجراء من اليسار إلى اليمين في الطرح والقسمة. وهكذا فإن ترتيب إجراء العمليات الحسابية في التعبيرات المعقدة هو كالآتي:

  1. الرفع إلى أس (رتبة ثالثة)
  2. الضرب والقسمة (رتبة ثانية) وفي حالة وجود الاثنين معاً يتم إجراء العمليات من اليسار إلى اليمين بالترتيب
  3. الجمع والطرح (رتبة أولى) وفي حالة وجود الاثنين معاً يتم إجراء العمليات من اليسار إلى اليمين بالترتيب

استخدام الأقواس

المشكلة في اتباع أولوية الإجراء السابقة أن تعبيراً مثل \(3+2\times4\) لا يمكن تقييمه على أنه \(5\times4\). فماذا إذا أردنا أن نقيمه بإجراء عملية الجمع أولاً قبل عملية الضرب؟ في هذه الحالة نستخدم الأقواس، وتعطى الأقواس في التعبيرات الرياضية أولوية أكبر من أي عملية أخرى، والهدف من هذا إعطاء مرونة في الكتابة تمكننا من تحديد طريقة تقييم التعبير كما نشاء، وعلى الرغم من أن أولوية إجراء العمليات الرياضية يمكن التحكم فيها بشكل كامل عن طريق استخدام الأقواس، إلا أن هذه الطريقة تجعل التعبيرات المعقدة صعبة الفهم. على سبيل المثال، التعبير الآتي

\((((7\times2)-4)+((8\times3)\div6))+5\)
مكافئ تماماً (في حالة استخدام أولوية الإجراء الموضحة أعلاه) لنفس التعبير بدون أقواس على الإطلاق!
\((((7\times2)-4)+((8\times3)\div6))+5=7\times2-4+8\times3\div6+5\)
أي أن استخدام أولوية إجراء العمليات يقلل من استخدام الأقواس ويجعل التعبيرات الرياضية أسهل في الفهم والكتابة، وهكذا فإن الأولوية النهائية لإجراء العمليات هي

  1. الأقواس (يتم تقييمها من الداخل إلى الخارج)
  2. الرفع إلى أس (رتبة ثالثة)
  3. الضرب والقسمة (رتبة ثانية) وفي حالة وجود الاثنين معاً يتم إجراء العمليات من اليسار إلى اليمين بالترتيب
  4. الجمع والطرح (رتبة أولى) وفي حالة وجود الاثنين معاً يتم إجراء العمليات من اليسار إلى اليمين بالترتيب

الضرب الضمني

عملية الضرب شائعة جداً في الرياضيات، ولذلك فإن من المتعارف عليه أن علامة الضرب يمكن إهمالها عندما لا يسبب ذلك التباساً، وعليه فإن تعبيراً مثل \(2ab\) يفهم على أنه \(2\times a\times b\)، وعندما يتم إهمال علامة الضرب تسمى عملية الضرب ضرباً ضمنياً implicit multiplication. شرط أساسي في الضرب الضمني ألا يتسبب في غموض أو التباس، ولهذا عادة ما يستخدم حرف واحد للتعبير عن المتغيرات (أو الثوابت) الرياضية، إذ أن استخدام أكثر من حرف للتعبير عن متغير واحد قد يؤدي إلى التباس. على سبيل المثال، للتعبير عن المساحة عادة ما نستخدم الحرف \(A\) بدلاً من أن نكتب كلمة المساحة \(Area\) بالإنجليزية، لأن الأخيرة قد تفهم على أنها أربعة متغيرات \(A,r,e,a\) مضروبة في بعضها البعض ضرباً ضمنياً.وعلى الرغم من أن سياق التعبير يمكن أن يوضح المعنى، إلا أنه من الأفضل استخدام حرف واحد مع تعريف معناه في أول الكتابة لمنع الالتباس بشكل كامل. وأذكر الضرب الضمني هنا لأن التعبير المكتوب في العنوان يحتوي على ضرب ضمني.

يلاحظ أن الضرب الضمني لا يصح مع الأرقام، إذ أن تعبيراً مثل \(3456\) يفهم على أنه ثلاثة آلاف وأربعمئة وخمس وستين، ولا يفهم على أنه \(3\times456\) أو \(34\times56\) أو أي شيء من هذا القبيل. عندما يراد استخدام الضرب الضمني مع الأرقام، توضع القيم المراد ضربها بين أقواس (كما هو الحال في التعبير المكتوب في العنوان)، وإذا كان من المراد التعبير عن \(34\times56\) فمن الممكن كتابته كالآتي \(34(56)\) أو كالآتي \((34)56\).

وبناء على ما سبق، فإن التعبير الذي في العنوان يتم تقييمه كالآتي:

  1. الأقواس أولاً
    \(8\div2\color{red}{(2+2)}=8\div2\times4\)
  2. ثم الضرب (وهو ضمني في هذه الحالة) والقسمة بالترتيب من اليسار إلى اليمين
    \(\color{red}{8\div2}\times4=\color{red}{4\times4}=\color{blue}{16}\)

رأي آخر

قرأت على تويتر رأياً آخر مفاده أن الضرب الضمني له أولوية في الإجراء على عملية القسمة، واستشهد قائله بمقال من موسوعة الإنترنت ويكيبيديا والمقال يحتوي على مراجع ذات شأن يمكن الرجوع إليها على الإنترنت، منها على سبيل المثال Physical review style and notation guide وهو المرجع الخاص بمجلة Physical Review الموجه إلى كاتبي المقالات لتحديد طريقة العرض المعيارية التي تقبلها المجلة، وفي هذا المرجع وتحديداً في الفقرة IV–E–2–e يعطى الضرب أولوية على القسمة. فهل يتعارض ذلك مع ما سبق؟

هذا المرجع يتحدث على وجه التحديد عن استخدام الشرطة المائلة كعلامة للقسمة في التعبيرات الرياضية التي تحتوي على كسور، ولا يتحدث عن أولوية إجراء العمليات الرياضية بشكل مطلق. فما هو الفرق؟ المقالات العملية التي تحتوي على تعبيرات رياضية عادة ما يتم إعدادها للطباعة باستخدام لاتك \(\mathrm{\LaTeX}\) وهي لغة برمجة تختص بإعداد الوثائق للطباعة، وليست معروفة خارج نطاق المهتمين بنشر أبحاث في المجالات التي تتطلب كتابة تعبيرات رياضية، فلن تجدها معروفة مثلاً للأطباء حيث أن أبحاثهم المنشورة قلما تحتوي على مثل تعبيرات رياضية، وفي أول صفحة في هذا المرجع تجد أنه يحدد الغرض من استخدامه، وهو إعداد الوثائق باستخدام REVTeX وهي مجموعة من ملفات الماكرو للغة \(\mathrm{\LaTeX}\) من إعداد American Physical Society للاستخدام لإعداد الوثائق للنشر في مجلاتها.

والسؤال المهم الآن: لماذا يوجد ترتيب متعارف عليه يختلف عن القواعد السابق ذكرها؟ للتوضيح أذكر أن هذه التدوينة تستخدم \(\mathrm{\LaTeX}\) عن طريق JavaScript فيما يعرف بمكتبة MathJax ويمكن كتابة الكسور في صورة من اثنتين: إما ما يعرف بصورة العرض display style مثل \(\dfrac{3}{5}\) أو ما يعرف بصورة النص text style مثل \(\tfrac{3}{5}\)، والفرق بينهما واضح، فصورة العرض تستخدم نفس حجم الخط الأساسي، وعليه فإن الكسر يكون كبيراً ويأخذ مسافة رأسية أكبر بشكل واضح من ارتفاع السطر ومن المسافة بين الأسطر، أما صورة النص فتستخدم حجماً أصغر من الخط بحيث لا يتعدى ارتفاع الكسر ارتفاع السطر فيتسبب ذلك في أن يكون شكل ذلك السطر قبيحاً بين بقية الأسطر.

ويقول المرجع بشكل واضح لا يحتمل تفسيراً آخر أن هذه الأولوية في إجراء العمليات الرياضية تختص فقط بحالة استخدام الشرطة المائلة للتعبير عن الكسور، والشرطة المائلة كما في \(3/5\) تجعل من الممكن استخدام الحجم الطبيعي للخط مع عدم استخدام مسافة رأسية أكبر من ارتفاع السطر الطبيعي. في حالة استخدام الشرطة الأفقية لا يوجد مكان للالتباس، حيث أن البسط كله يعد مقسوماً على المقام كله، فمثلاً التعبيران الآتيان متكافئان

\(\dfrac{a+b-3}{2c^2+5}=(a+b-3)\div(2c^2+5)\)
أما في حالة استخدام الشرطة المائلة يظهر التباس
\(a+b-3/2c^2+5\)
وعلى وجه التحديد، يلزم استخدام أقواس في هذه الحالة ليكون التعبير مكافئاً للآخر الذي يحتوي على الشرطة الأفقية
\((a+b-3)/(2c^2+5)\)

ولكن ماذا عن تعبير مثل \(3a/5b\)؟ إذا استخدمنا أولوية العمليات الرياضية التي سبق ذكرها، واعتبرنا أن الشرطة المائلة علامة قسمة، يكون التعبير مكافئاً للآتي \(3\times a\div5\times b\)، وعليه يتم تقييمه على أنه \(\dfrac{3\times a}{5}\times b\). فماذا إن كان الكاتب يريد أن يعبر عن الكسر \(\dfrac{3a}{5b}\) لكن باستخدام الشرطة المائلة لتجنب تصغير الخط؟ في هذه الحالة يلزم عليه أن يكتب الكسر في الصيغة \(3a/(5b)\). ولتجنب كتابة أقواس لا داعي لها، ولأن استخدام الشرطة المائلة للتعبير عن الكسور شائع ويؤدي إلى نص شكله أفضل، فإنه في هذه الحالة وفقط في هذه الحالة تعطى أولوية للضرب الضمني على القسمة المكتوبة في صورة شرطة مائلة، وهكذا يمكن أن نفهم التعبير \(3a/5b\) على أنه \(\dfrac{3a}{5b}\) بدون استخدام أقواس وبدون إيجاد غموض في التعبيرات الرياضية، إذ أنه من المهم أن تتحرى مثل هذه المجلات العلمية المحترمة الدقة في كتابة التعبيرات الرياضية بما ينفي أي فرصة للالتباس أو الغموض.

ونظراً لأن تغيير أولوية العمليات الحسابية عما ذكرته سابقاً أمر يتعلق بحالة خاصة جداً ومحددة جداً تتعلق بشكل النص ولا تتعلق بأي فكرة رياضية، ونظراً لأن التعبير المكتوب في عنوان التدوينة لا يحتوي على قسمة في صورة شرطة مائلة، فإن هذا الرأي لا يصح استخدامه في تقييم مثل هذا التعبير، ويظل التقييم الصحيح هو ما ذكرته سابقاً وللأسباب التي ذكرتها سابقاً. وأذكر القارئ أن أولوية العمليات المذكورة في مرجع Physical Reveiw تختص فقط بطريقة إعداد النص كما هو مكتوب في المرجع ذاته، ولا تختص بطبيعة العمليات الرياضية وخواصها، ولا يصح أن تؤخذ مثل هذه الحالة الخاصة على أنها قاعدة عامة تطبق في تقييم التعبيرات الرياضية، وفي جميع الأحوال تظل طريقة الكتابة المثلى للرياضيات هي ما ينتفي عنها كل غموض والتباس، وإن تطلب الأمر تجنب استخدام الشرطة المائلة للتعبير عن الكسور، فليكن كذلك، إذ أن هناك طرق أخرى للتعبير عنها (مثل الأس السالب) لا تستخدم فيها الشرطة المائلة، وتجنب الالتباس يجُبّ التفضيلات الشخصية فيما يتعلق بالرياضيات.

استخدام البرامج والحاسبات الآلية

رأي آخر قرأته أن التقييم الصحيح هو ما ينتج من إدخال هذا التعبير في برامج الرياضيات المشهورة مثل MathCAD والحصول على الناتج منها. والحقيقة أنني استنكر هذا بشدة كمرجع لصحة أو خطأ التقييم، إذ أن الصحة أو الخطأ في الرياضيات لا تستمد قوتها من السلطة authority وإنما من المنطق ذاته، وعلى من يقدم حلاً لأي مشكلة أن يقدم برهاناً لهذا الحل، حتى وإن كان من أمهر وأذكى الرياضيين في العالم. ببساطة: لا يوجد شيء في الرياضيات لا يحتاج إلى برهان بخلاف المسلمات والتعريفات، وهذه محدودة العدد جداً وفي أغلب الأحوال لا يستخدمها المبرهن لأنها تبدأ من مستوى أساسي بدائي جداً. النتيجة التي يعطيها أي برنامج أو حاسب آلي ليست مقياساً، وقد نقبلها على أنها مؤشر من نوع ما، ولكنها بكل تأكيد ليست برهاناً، واستخدامها كبرهان هو من قبيل مغالطة الاحتكام إلى السلطة appeal to authority.

بوجه عام، في الرياضيات نهتم بكيفية الوصول إلى الحل وليس بالحل ذاته. الكيفية هي التي تجعل من الحل صحيحاً بشكل مطلق، وإن كان الحل صحيحاً في القيمة لكن طريقة الوصول إليه خاطئة فلا قيمة له، لأن ما بني على باطل فهو باطل.

الحقيقة المطلقة

الذي جعلني أقرر كتابة هذه التدوينة أنني قرأت رأياً لأحد الشخصيات المحترمة جداً اجتماعياً وأكاديمياً مفاده أن الحقيقة المطلقة غير موجودة ولا حتى في الرياضيات، وكان هذا مبنياً على وجود (أو تخيل وجود) أكثر من طريقة لتحديد أولوية إجراء العمليات الرياضية.

كلا وألف كلا.

الرياضيات هي العلم الوحيد الذي يختص بالحقيقة المطلقة. الخلط بين المفاهيم المجردة للرياضيات وبين التطبيقات العملية لها من أسباب توهم البعض بأن الحقيقة المطلقة لا توجد ولا حتى في الرياضيات. وفي حالتنا هذه، كان سبب الالتباس عدم التفريق بين حالة خاصة جداً لظروف خاصة جداً ولأسباب عملية تتعلق بإعداد النص للطباعة، وبين القواعد الرياضية العامة التي تعتمد على براهين والتي تستمد مباشرة من خصائص الأرقام وخصائص العمليات الرياضية.

الحقيقة المطلقة موجودة بكل تأكيد، وربما يتطلب هذا تدوينة أخرى لأن الكلام فيه يطول، وما أريد التأكيد عليه هنا أن الإدعاء بأن الحقيقة المطلقة غير موجودة هو ادعاء كاذب روج له ”فلاسفة“ ما بعد الحداثة postmodernism، وأكره أن أسميهم فلاسفة لأنني لا أتخيل فيلسوفاً ينفي وجود الحقيقة المطلقة. قد ينفي علمنا بكل بالحقيقة المطلقة، وفي هذا اتفق معه، لكن نفي وجودها هو كذب قبيح، وفي الرياضيات على وجه التحديد فإن نفي وجودها جنون أو عبث أو جهل بمعنى الرياضيات والغرض منها.

وربما أتفق مع من يظن أن كتابة تدوينة بهذا الحجم للرد على سؤال بهذا الصغر هو أمر مبالغ فيه، ولكنني لم أكتب التدوينة في الأساس للإجابة عن السؤال ولا لتوضيح قواعد الرياضيات، وإنما لأنني صدمت من ادعاء عدم وجود الحقيقة المطلقة في الرياضيات. إن أردت أن يخرج القارئ بشيء واحد فقط من هذه التدوينة فهو أن الرياضيات علم الحقيقة المطلقة.


نسب المصنفات

السبت، 30 يونيو 2018

الاستقراء والتنميط: بين التعقل والتطرف

الاستقراء inductive reasoning من الأنواع الرئيسية للاستنتاج المنطقي، بل إنه النوع الذي تقوم عليه العلوم التجريبية، ويوجد نوعان آخران أحدهما الاستنباط deductive reasoning وهو المستخدم في المنطق التقليدي وفي العلوم الرياضية وهو أقوى (بشرط صحة مقدماته) من الاستقراء، والآخر الاستنتاج الافتراضي abductive reasoning وهو أضعفها جميعاً، وليس مجال الحديث هنا عن أنواع الاستنتاج المنطقي، وإنما سنتناول بالنقاش والشرح معنى وحدود الاستقراء فقط دون مقارنته بالأنواع الأخرى.

التنميط stereotyping على الجانب الآخر دائماً ما يُذكَر بشكل سلبي على أنه خلل في التفكير—وهو كذلك—وأحياناً يطلق عليه ’التعميم‘ وإن كنت أرى أن هناك فرقاً في المعنى بين اللفظين يجب مراعاته عند استخدامهما لتجنب التباس المعاني وخلط المفاهيم. والمشكلة أن الفرق بين الاستقراء والتنميط والتعميم ليس واضحاً في الأذهان، وغالباً ما تستخدم الألفاظ ذات الوقع السلبي بشكل أكثر مما ينبغي، سواء كان هذا الاستخدام عن جهل أم عن عدم تحري للدقة أم تدليساً متعمداً. والغرض من هذا المقال توضيح الفرق بين هذه المعاني.

ما هو الاستقراء؟

الاستقراء في جوهره يتوجه بالاستنتاج المنطقي من الخاص إلى العام from specific to general، فإذا رصدنا مشاهدات معينة تحت ظروف معينة وبمصاحبة عوامل معينة ووجدنا أن هناك ارتباطاً قوياً بين المشاهدات وبين الظروف والعوامل المصاحبة لها، فيمكن في هذه الحالة الخروج باستنتاج مفاده أن تكرار الظروف والعوامل سيؤدي إلى رصد نفس المشاهدات. دعونا نوضح هذا بأمثلة لأني لا أظن المعنى سهلاً.

صورة لمحطة من محطات رصد الطقس. بواسطة hpgruesen . مرخصة بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي التخصيص للملك العام. . الصورة الأصلية في الرابط.

عند رصد مشاهدات الطقس في مكان ما على مدار السنة، سيجد الراصد أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين شهور السنة وفصولها وبين درجة الحرارة وتساقط الأمطار، وأن هذا النمط يتكرر كل سنة. من هذه المشاهدات يمكن تعميم الاستنتاج بأن بعض شهور السنة بارد وبعضها حار، ويمكن أن نتوقع قدراً معيناً من الأمطار في شهور معينة من السنة. استخدام الاستقراء مع مشاهدات الطقس هو ما اعتمد عليه الزارعون منذ فجر التاريخ لتنظيم زراعاتهم، على الرغم من أن قدراً محدوداً من المشاهدات—حتى وإن كان لعشرات السنين—لا يضمن تكرار هذا النمط بالضرورة في السنوات المقبلة.

ولو أن تجربة إكلينيكية تهدف إلى المقارنة بين نوعين من العلاج لمرض السكري diabetes mellitus رصدت أن التحكم في نسبة السكر في الدم مع العلاج الأول أفضل منها مع العلاج الثاني، فإن هذه التجربة قد تخرج باستنتاج مفاده ترجيح أفضلية العلاج الأول على الثاني في التحكم في نسبة السكر في الدم. وعلى الرغم من أن التجربة أجريت على عدد محدود من الناس فالاستقراء يرجح تعميم نتيجة التجربة على كل المرضى الذين لهم ظروف مماثلة.

هكذا نرى كيف أن الاستقراء يعتمد على تعميم الاستنتاج من قدر محدود من المشاهدات إلى قاعدة عامة. هذا الاتجاه من الخاص إلى العام هو نفسه ما يخلق مجالاً للبس بين الاستقراء وبين التنميط أو التعميم غير المقبول، لكن الأمثلة توضح أن الاستقراء نوع من التعميم المستخدم في الاستنتاج المنطقي منذ القديم وإلى أحدث التجارب العلمية وأعقدها، فليس كل التعميم سيئاً أو مرفوضاً.

ما هو التنميط؟

يختلف التنميط عن الاستقراء اختلافاً جوهرياً في أن التنميط لا يعتمد على رصد المشاهدات والتحليل والقياس وإنما هو عبارة عن إطلاق أحكام عامة غالباً ما تعتمد على الخبرات الشخصية التي خلفت انطباعاً قوياً، أو على الشائعات المنتشرة في المجتمع، أو على رغبة شخصية في تدعيم وجهة نظر ينحاز إليها الشخص، أو على جميع هذه بدرجات متفاوتة. ما يميز التنميط في العموم هو الافتقار إلى الدليل الفعلي على الرغم من تعصب الشخص بشكل واضح للفكرة، وغالباً ما يلجأ مثل هؤلاء إلى استخدام الصوت العالي لتغطية غياب الدليل.

Antisemitic caricature 1873.jpg
رسم مناهض لليهود من عام ١٨٧٣ يظهر الشكل النمطي المنفر للرجل اليهودي. علامة الملكية العامة خالي من حقوق الملكية الفكرية. . الصورة الأصلية في الرابط.

على سبيل المثال، قد تجد من يطلق حكماً عاماً أن النساء لا يُجِدْن قيادة السيارات، وتراه يسوق ’الأدلة‘ من خبراته الشخصية المنتقاة لخدمة هذه الفكرة، ويستخدم في معرض حديثه عنها أسلوباً ساخراً مستهزئاً، ومثل هذا يتجاهل تماماً أن أغلب حوادث الطرق يتسبب فيها رجال، وأن التأمين على قائد السيارة الذكر أكثر كلفة من التأمين على الأنثى لأن شركات التأمين أدركت هذه الحقيقة. في واقع الأمر يرى مثل هذا أن القيادة المتهورة هي القيادة ’الحقة‘ وأن النساء حريصات في قيادتهن بشكل مبالغ فيه، ولكن صياغة الجملة بهذا الشكل لا يعطيه شعوراً بالتفوق، ولهذا يصوغها بما يخدم هواه.

ومن مميزات التنميط أيضاً—إضافةً إلى غياب الدليل—نبرة التعالي superiority أو التدني inferiority الموجودة فيه، فالتنميط غالباً ما يرتبط بعوامل شعورية، ومن أمثلة التنميط المختلط بنبرة التعالي ما يلي:

  • الأفارقة السود شعوب متخلفة (تعالٍ على سود البشرة)
  • اليهود بخلاء لا يهمهم سوى جمع المال (تعالٍ على اليهود)
  • النصارى لا يستحمون ورائحتهم منفرة (تعالٍ على المسيحيين)
  • المسلمون خير أمة أخرجت إلى الناس (تعالٍ بالانتماء للمسلمين)
  • الرجال خونة لا أمان لهم (تعالٍ أخلاقي من النساء على الرجال)
  • النساء لا يفقهن في السياسة ولا الرياضة (تعالٍ عملي من الرجال على النساء)
  • الطفل المصري أذكى طفل في العالم (تعالٍ بالانتماء للمصريين)

ومن أمثلة التنميط المختلط بنبرة التدني ما يلي:

  • الأوروبيون أكثر شعوب العالم حضارة (تدنٍ أمام الحضارات الأوروبية)
  • الحكومة أدرى بالصالح العام من الشعب (تدنٍ أمام سلطة الحكومة)

بعض هذه الأنماط تنهار بسهولة مع الحد الأدنى من التفكير والبحث، لكن بعضها قد لا يكون خالياً تماماً من الصحة، وهنا تكمن المشكلة، فنجد بعض الأدلة المحدودة التي قد تدعم الفكرة، لكن هذه الأدلة لا ترقى إلى مستوى الخروج باستنتاج أعم وأشمل كما هو الحال مع الاستقراء.

على سبيل المثال نمط أن النساء لا يعرفن التعامل مع الآلات الميكانيكية نمط خاطئ بكل تأكيد لأنه يوحي بأنهن غير قادرات على ذلك. أما إذا كان المقصود أن أغلبهن لا يهتم بتعلم التعامل مع الآلات مثل الرجال فليس هذا تنميطاً وإنما استقراء، ويكفيك أن تنظر إلى عدد مهندسات الميكانيكا أو عاملات الخراطة مقارنة بنظيرهن من الرجال لترى الفرق واضحاً جلياً. الفرق بين الجملتين لا يبدو كبيراً لكنه فرق جوهري يتحتم إدراكه، ووقع الجملتين مختلف تماماً، ونتيجة المعنيين مختلفة تماماً، فأحدهما يحرم النساء كليةً من فرصة التعامل مع الآلات الميكانيكية، والآخر يقرر واقع قلة اهتمامهن بتعلم استخدامها.

لماذا يجب التفريق بين الاستقراء والتنميط؟

رأينا كيف أن الاستقراء يعتمد على الدليل ويتجه من بعض المشاهدات المحدودة إلى استنتاج عام، وكيف أن التنميط أيضاً قد يعتمد على بعض الأدلة ليخرج باستنتاج عام. الاستقراء أمر معقول ومرغوب واعتمد عليه الإنسان منذ أقدم الأزمنة وبُنِيَت عليه كل العلوم التجريبية، أما التنميط فأمر مذموم ويعد خللاً في التفكير يجب تجنبه. لذا وجب التفريق بينهما.

لا يمكن أن نمتنع كليةً عن الخروج باستنتاجات عامة من أدلة محدودة وإلا استحالت الحياة، لأن العقل البشري لا يملك القدرة على تحليل كل موقف بمعزل عما سبقه وأن يفعل هذا في إطار زمني مقبول. الاستقراء حتمية عملية pragmatic necessity، واستخدام الاستقراء ثبتت كفاءته في تحقيق التطور والتقدم، والعلم أبرز الأدلة على ذلك.

تخيل مثلاً لو أنك تريد الذهاب من مكان لآخر باستخدام المواصلات العامة. النمط العام الذي تراه في أغلب البشر هو أن الآخرين لا يهاجمونك بدون سبب، وأن الشخص العادي مسالم وعنده من الرغبة في الحياة قدر لا يقل عما عندك. لهذا تستقل المواصلات العامة بدون أن تخشى أن يطعنك أحدهم في ظهرك أو أن يُغْرِق القائد الحافلة عمداً أو يصطدم بها عمداً في حائط مثلاً. وتسير في الشارع وأنت تفترض أن قائدي السيارات بوجه عام لن يتعمدوا دهسك. كل هذه استقراءات من المشاهدات اليومية. تخيل لو أنك تفترض أن كل إنسان آخر قد يقتلك أو يؤذيك أذى شديد بدون أن تنظر إلى الاحتمالية الضئيلة لهذه الفكرة. بمنتهى البساطة ستتوقف عن الحركة في الحياة.

ولا يمكن أيضاً أن نقبل التنميط بدون التفرقة بينه وبين الاستقراء. قبول وجود التنميط في السلوك البشري أمر مفروغ منه، بل أظن التنميط من الأعراض الجانبية لقدرة العقل البشري على الاستقراء، أما قبول التنميط بمعنى الموافقة عليه وإقراره فينتج عنه انحدار في مستوى الفكر البشري، لأن الاستنتاجات المبنية على التنميط خاطئة بدرجة ما إن لم تكن خاطئة تماماً، وإقرار الخطأ وقبوله معناه أن تزول الفواصل بين الصحيح والخاطئ وتنتفي وظيفة العقل.

فإذا كان القضاء على التنميط أمراً مستحيلاً وإذا كان قبوله وإقراره أمراً مستحيلاً، وجبت التفرقة الواضحة بينه وبين الاستقراء.

كيف نفرق بين التنميط والاستقراء؟

هذه التفرقة تبلورت تدريجياً في العقل الجمعي للبشر على مدار مئات أو آلاف السنين، وتركزت في العصر الحالي فيما يعرف بالمنهج العلمي scientific method الذي يحدد أسلوب التدليل وحدود الاستنتاج المبني على الاستقراء، وكلما ابتعد المنهج المتبع في الاستنتاج عن المنهج العلمي كلما ابتعد الاستنتاج عن الاستقراء واقترب من التنميط.

وعلى الرغم من أن الحديث عن المنهج العلمي يمكن أن يملأ مجلدات ضخمة، فإننا يمكن أن نلخص بعض سماته الرئيسية فيما يلي، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا تبسيط مخل لكنه ما يسمح به المجال هنا، وأخص بالذكر ما قد يتعلق بالفرق بين الاستقراء والتنميط.

  • تحديد الفكرة العامة hypothesis وأسلوب البحث methodology قبل الشروع في البحث. هذه النقطة قد تغيب عن ملايين الاستنتاجات الاستقرائية التي يخلص إليها البشر في حياتهم اليومية، لكن هذا الغياب لا ينفي بالضرورة صحة الاستقراء في الأمور البسيطة، وإنما التحديد المسبق ضروري لتجنب الانحيازات التي تحددها الأهواء والخبرات الشخصية والتي تعد من أهم الفوارق بين الاستقراء والتنميط، إذ يتأثر بها الأخير كما سبق القول.
  • إجراء التجارب العملية empirical experiments لجمع الأدلة evidence المتعلقة بالفكرة بشكل موضوعي objective. ربما لن تجري تجارب عملية لاتخاذ قراراتك اليومية، لكن الاعتماد على الأدلة والتفكير فيها ونقدها أمر في منتهى الأهمية، والهدف من إجراء التجارب هو جمع الأدلة المتعلقة بالفكرة. التنميط غالباً ما يفتقر إلى الدليل الكافي.
  • وجود عوامل يمكن قياسها بشكل كمي measurable/quantifiable ويتحدد على أساسها الاستنتاج. عادة ما يتم إهمال القياس الكمي في الاستنتاجات اليومية البسيطة، وأظن هذا الإهمال من أسباب الخطأ واللبس. القياس الكمي يُخْرِج المعلومات والأدلة من حيز الرأي الشخصي ويُمَكِّن الجميع من رؤيتها بشكل موضوعي. وأظن من المستحيل الالتزام الدائم بالقياس الكمي في كل أمور الحياة اليومية، لكن محاولة تحقيقه قدر الإمكان أمر مطلوب، وتزداد أهميته بازدياد أهمية الأمر المتعلق به.
  • مقارنة القياسات الناتجة عن التجربة بما تم رصده من قبل. ليست المعرفة القديمة بالضرورة أفضل ولا أسوأ من المعرفة الحديثة، وإهمال المعارف القديمة انتقاص من إجمالي المعرفة البشرية. المكافئ لهذا في الاستنتاجات اليومية هو أن يستشير الناس بعضهم البعض، لكن الاستشارة تنعدم قيمتها إذا كان الشخص يختار من يستشيرهم عالماً أنهم يوافقونه الرأي، إذ تصبح في هذه الحالة امتداداً للانحيازات والأهواء الشخصية.
  • ألا يخرج استنتاج التجربة خارج نطاق الظروف التي تمت فيها التجربة، أو بمعنى آخر ألا يتم مد الخط على استقامته extrapolation للخروج باستنتاجات لم يتم تجريبها عملياً. دعونا نضرب مثلاً. لو أننا جربنا آلاف المرات أن نحدد الاتجاه العام لشارع كورنيش النيل في القاهرة فسنجد أنه يمر في خط شبه مستقيم من الجنوب إلى الشمال مع انحراف بسيط نحو الغرب.

    من هذا يمكن استنتاج أن السير على هذا الشارع من منطقة حلوان في الجنوب سينتهي إلى منطقة شبرا الخيمة في الشمال. بمد الخط على استقامته يمكن القول أن الاستمرار على نفس الطريق يصل بنا إلى مدينة طنطا، وهو أمر صحيح إلى حد ما على الرغم من انتهاء شارع كورنيش النيل عند شبرا الخيمة وبداية طريق مختلف. لكن هل يمكننا أن نكمل مد الخط على استقامته لنقول أن الاستمرار على نفس الطريق يصل بنا إلى تركيا؟! أظن أن الجواب لن يختلف عليه اثنان. فإذا كان هذا هو الحال في أمر بسيط هكذا، فلماذا يصر البعض على مد الخط على استقامته في نواحٍ أخرى وهم يعلمون ان هذا خطأ؟ لا أدري!

التنميط والتعميم

أرى أن هناك تفرقة واجبة بين معنى التنميط ومعنى التعميم، فالأخير هو ما يفعله من يمد الخط على استقامته كما تكلمت من قبل، فيخرج بحكم عام مطلق من الاستنتاج المنطقي المبني على الدليل، ويعمم هذا الحكم على كل الأحوال التي تقع خارج نطاق الأدلة.

على سبيل المثال، لو أن أحد استطلاعات الرأي المؤداة بعناية لتحري الصدق وتجنب التحيز أشار إلى أن ٨٠٪ من الإناث في مجتمعنا يتعرضن بشكل مستمر للتحرش سواء باللفظ أو بالفعل، فهل يجوز أن نعمم النتيجة وندعي أن ٨٠٪ من النساء حول العالم يتعرضن باستمرار للتحرش اللفظي أو الفعلي؟ لأن هذا المثال واضح سيجيب الأغلبية بأن هذا أمر لا يجوز.

الكوبرا المصرية. بواسطة hape662 . مرخصة بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 2.0 عام. . الصورة الأصلية في الرابط.
Cerastes-cerastes head.jpg
الأفعى ذات القرنين. بواسطة Jwinius (Patrick JEAN / muséum d'histoire naturelle de Nantes). . الصورة الأصلية في الرابط.

مثال آخر: هل أغلبية الثعابين سامة venomous أم غير سامة non-venomous؟ في مصر أظن أغلبية أنواع الثعابين سامة ومنها الكوبرا المصرية Egyptian cobra والأفعى ذات القرنين horned viper (الطريشة) وهما من أشهر أنواع الثعابين المصرية السامة، وعلى الرغم من افتقاري إلى الدليل الكمي في هذه النقطة تحديداً فقد استقر في وجدان المصريين أن الثعبان كائن خطر ومخيف، ومنذ أيام المصريين القدماء اتُّخِذ رمزاً لبعض الآلهة. في ظني أن هذا سببه أن نسبة الثعابين السامة إلى غير السامة في مصر كبيرة (على الرغم من وجود بعض الأنواع غير السامة فيها). فهل هذا هو الحال على مستوى العالم ككل؟ في هذا السياق ربما يتوقع البعض أن الإجابة بالنفي، وهم محقون. نسبة الثعابين السامة تتراوح في تقديرها بين ٢٠٪ إلى ٤٠٪ من كل أنواع الثعابين، أي أن أغلب الأنواع غير سامة. مد الخط على استقامته لا يصلح في هذه الحالة أيضاً.

مثال ثالث: كم نوعاً من الكائنات الحية تعرفها يمكن أن يعيش بدون الأكسجين الذي نتنفسه كل لحظة؟ إن كنت تعرف بعض الأنواع التي يمكن أن تعيش بدون أكسجين، فهل تعرف أنواعاً يقتلها الأكسجين؟ الواقع أن هناك بعض أنواع البكتريا يقتلها الأكسجين وتسمى اللاهوائيات الإجبارية strict/obligate anaerobes، فإذا كانت كل الشواهد والأدلة التي تعرفها تؤيد أن الأكسجين ضروري للحياة، فاستنتاجك صحيح فقط في حدود مشاهداتك ولا يمكن تعميمه على كل الأحوال بنسبة ١٠٠٪، وفي الواقع لا يمكن تعميمه بأي نسبة معروفة إلا في حدود مشاهداتك وأدلتك فقط. ما لا تعرفه لا يمكن قياسه وبالضرورة لا يمكن تحديد كميته، ويستحيل أن تحدد نسبة ما تعرفه إلى ما لا تعرفه لأن تحديد النسبة يتطلب معرفة الكميتين.

لهذا أفصل بين التعميم أو ما يعرف بمد الخط على استقامته extrapolation وبين التنميط stereotyping، فعلى الرغم من ان كليهما خطأ وخلل في التفكير إلا أن الأول يعتمد على أدلة ويبدو منطقياً للوهلة الأولى، بينما الثاني يفتقر إلى الدليل ويمكن بيان الخلل فيه بسهولة نسبية، وعادة ما يتوافق مع الأهواء الشخصية.

هل الاستقراء يعتبر برهاناً أكيداً؟

الإجابة البسيطة هي بالنفي.

الاستقراء يرجح—بناء على النمط المتكرر في المشاهدات—احتمالية استنتاج معين ولا يؤكد حتميته في جميع الأحوال بلا استثناء، ولا يمكن أن يحقق هذا القدر من اليقين، وفي هذا الجانب فقط يكاد يكون مماثلاً للتنميط، إلا أن اتخاذ المحاذير اللازمة لتجنب تأثير الهوى الشخصي على المشاهدات والاستنتاجات القائمة عليها هو مما يفصل بوضوح بين الاستقراء والتنميط، ومما يفصل بوضوح بينهما أيضاً أن الاستقراء ينحصر في حدود الظروف التي رُصِدَت فيها الأدلة وأنه دائماً يضع مجالاً للخطأ ولأن يكون الاستنتاج كله غير صحيح في حالة وجود خلل في أسلوب التجربة أو في القياس، بينما التنميط يتميز بالتعصب واليقين المطلق غير المبرر.

الاستقراء ليس برهاناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. الاستقراء ما هو إلا ترجيح لفكرة على أخرى. والعلم التجريبي كله مبني على الاستقراء، ومن المفترض ألا تكون هناك استنتاجات علمية هي عبارة عن ’حقائق‘ مطلقة. الحقائق هي المشاهدات التي يُبْنَى عليها الاستنتاج. الاستنتاجات غالباً ما تكون محاولات لتفسير المشاهدات وصياغتها في صورة نظريات، ومهما توافرت الأدلة على صحة النظرية فهذا لا يعني أنها حقيقة مطلقة، وإنما يعني أنها تبدو على الأرجح صحيحة في حدود دقة القياس المتاحة وفي حدود ظروف التجربة.

الخطوط العامة

من كل ما سبق ألخص ما أظنه ينبغي أن يكون في الآتي:

  • الانحيازات المسبقة والأهواء الشخصية من أهم أسباب الخلل في التفكير. إذا كان مجرد اختلاف الآخرين معك مثار غضب في نفسك فلعلك متعصب لرأيك لا مقتنع به.
  • الاعتماد على الأدلة الموضوعية (ويفضل المقاسة كمياً) أمر في قمة الأهمية وإن كان لا يمكن تحقيقه في ١٠٠٪ من المواقف اليومية.
  • اسمع لآراء الآخرين وخاصة المخالف منها وانقدها بعقل منفتح، واضعاً في الاعتبار احتمال أن يكون رأيك خاطئاً. أنت لا تعلم كل شيء، والمعرفة أساس الاستنتاج.
  • اخرج باستنتاجات من الأدلة وفقط في حدود الأدلة. إذا اختلفت الظروف قد تتغير الأدلة وينتفي الاستنتاج. لا تمد الخط على استقامته إلا في أضيق الحدود، وأن تمكنت ألا تفعل ذلك مطلقاً فهو أفضل.
  • كن على أقصى درجات الحذر قبل أن تعمم استنتاجك على كل الحالات. حتى مع الاستقراء السليم يستحيل الجزم بشيء بصورة مطلقة. دائماً دع مجالاً للشك.

نسب المصنفات

باستثناء المصنفات المنسوبة أعلاه، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دوليرخصة المشاع الابداعي.

الأحد، 24 يونيو 2018

ما هو الطبيعي؟

هل الطبيعي هو ما ليس له في الطبيعة استثناء؟

نظرياً على الأقل، وعملياً في معظم المجالات، لا يوجد شيء في الطبيعة ليس له استثناء. حتى قوانين الفيزياء التي يضرب بها المثل في الدقة لدرجة أنها تسمى قوانين يوجد لها استثناءات.

صورة لجبل جليدي بواسطة David مرخص بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 2.0 عام . الصورة الأصلية في الرابط.

على سبيل المثال، نعرف أن كل المواد تتمدد بالحرارة وبالتالي تقل كثافتها، وتنكمش بالبرودة وبالتالي تزداد كثافتها. الماء استثناء واضح لهذه القاعدة، فالماء ينكمش بالبرودة إلى أن يصل إلى أقل حجم وأعلى كثافة له عند درجة حرارة ٤ مئوية، ثم يتمدد إذا قلت درجة حرارته عن ذلك، ولهذا السبب تجد أن الثلج يطفو على سطح الماء على الرغم من أنه أبرد من الماء. ولهذا نجد أن جبال الجليد على الرغم من حجمها المهول تطفو على سطح البحر.

ومن المعروف أن مقاومة resistance الموصلات لسريان التيار الكهربي تعتمد على درجة الحرارة فتزداد بازدياد حرارة الموصل وتقل بالتبريد. هذا صحيح فقط في حالة الموصلات، أما في حالة أشباه الموصلات semiconductors التي يصنع منها الترانزيستور، فإن رفع درجة الحرارة يؤدي إلى انخفاض المقاومة بعكس ما يحدث في الموصلات.

وقوانين نيوتن Newton's laws للحركة والجاذبية لم يفكر أحد في تغييرها على مدار ثلاثة قرون من الزمان لأنها كانت تنطبق على كل التطبيقات العملية والمشاهدات الكونية بشكل دقيق، إلى أن تلاشت هذه الدقة مع نهايات القرن التاسع عشر مع إجراء بعض التجارب على الضوء، مما أدى إلى ظهور النظرية النسبية Theory of Relativity. والنظرية النسبية نفسها لا تنطبق على الجزيئات تحت الذرية، ونحتاج إلى نظرية ميكانيكا الكم Quantum Mechanics لتفسير الظواهر والمشاهدات على هذا المستوى. لكن ميكانيكا الكم نفسها لا تنطبق على الأجسام الكبيرة!

لا يمكننا أن ندعي أن الكون لا توجد فيه استثناءات عل الإطلاق. وإن لم نكن قد تعلمنا من حقائق تاريخ العلم ومن الخبرات الشخصية اليومية أن الاستثناء دائماً موجود فلا أدري ماذا يمكن أن نتعلم، فإن كان شيء بهذا الوضوح لا يعلمنا فلن يعلمنا شيء.

ولأن الطبيعة دائماً فيها الاستثناء، فإن الطبيعي لا يمكن تعريفه أنه ما ليس له استثناء في الطبيعة.

هل الطبيعي هو كل ما يُرصَد في الطبيعة بغض النظر عن كونه شائعاً أم لا؟

أظن أن الإجابة المعقولة على هذا السؤال هي بالنفي، فالمعنى المتعارف عليه عند الغالبية الساحقة من الناس أن الطبيعي هو الشائع إلى حد ما.

هل إذا رأيت إنساناً يفوق طوله المترين ستعتبر هذا ’طبيعياً‘؟ هل إذا رأيت إنساناً له أحد عشرة أصبعاً ستعتبر هذا ’طبيعياً‘؟ هل تعتبر أن قدرات اللاعبين الأولمبيين ’طبيعية‘؟ إن كنت تتعامل مع المصطلح على أنه يعبر عما نتج بدون تدخل من الإنسان فحينئذ يمكن أن تقول أن هذه كلها أمور طبيعية natural (مثل المنتجات الغذائية الطبيعية). النقيض لهذا المعنى هو الشيء ’الاصطناعي‘ أو ’الصناعي‘ artificial (مثل الذكاء الاصطناعي والأطراف الصناعية)، ولكن هذا ليس المقصود بالمصطلح في هذا المقال.

المقصود بمصطلح ’الطبيعي‘ (normal) في هذا المقال هو الشائع من الأشياء. يحتاج الإنسان إلى إدراك الأشياء الشائعة لأنها تسهل عليه تسيير أمور حياته، فيتعامل مع الأنماط المتكررة بالقليل من التفكير والتحليل معتبراً إياها طبيعية ولا تحتاج إلى نظرة فاحصة. الطبيعي من الأشياء بهذا المفهوم لا يلفت انتباه الإنسان في العادة، فلن يلفت انتباهك شخص يشبه بقية الناس ويرتدي ملابس لا تختلف كثيراً عن بقية الناس ويسير مثل بقية الناس في شارع مزدحم، بينما سيلفت هذا الشخص انتباهك بكل تأكيد لو كان يرتدي ملابس غير مألوفة أو يفعل شيئاً غير مألوف.

ما هي درجة الشيوع التي عندها يسمى أمر ما طبيعياً؟

الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر اليسير أبداً وتحتاج إلى بعض الشرح، ولهذا أرجو أن يتحمل القارئ معي حتى أعرض هذا المثال.

تخيل لو أن شخصاً ما كُلِّف بتوصيل مبلغ من المال إلى آخر، وسمح له بأخذ أجر من هذا المبلغ—إن أراد—بحد أقصى ١٠٠ جنيه. ولنفرض أن احتمال أن يأخذ هذا الوسيط ١٠ جنيهات أو ٢٠ أو أكثر هي كما في الرسم التالي.

في الرسم السابق، نرى أن أكثر احتمال (٢٠٪) هو أن يأخذ الوسيط مبلغ ٨٠ جنيهاً كأجر مقابل توصيل المبلغ، لكن هناك أيضاً احتمال صغير (١٪) ألا يأخذ أجراً على الإطلاق واحتمال ٦٪ أن يأخذ الحد الأقصى وهو ١٠٠ جنيه.

فماذا يحدث لو أن المبلغ سيتم توصيله عن طريق وسيطين بنفس الشروط السابقة؟ هناك احتمالات مختلفة للأجر الذي يمكن أن يأخذه الوسيط الأول، ونفس الاحتمالات تنطبق على الوسيط الثاني، لكن بحساب احتمالات إجمالي الأجر الذي يمكن أن يأخذه الوسيطان نجد أن الرسم يختلف عما سبق، ونجد أن أعلى احتمال للأجر الإجمالي هو حوالي ١١٫٧٪ وأن هذا يوافق أجراً إجمالياً قدره ١٣٠ جنيهاً.

أما لو زاد عدد الوسطاء إلى ٣ تحت نفس الشروط، نجد أن أعلى احتمال للأجر الإجمالي هو حوالي ٩٫٧٪ ويوافق أجراً إجمالياً قدره ٢٠٠ جنيه. ولو زاد عدد الوسطاء إلى ٤ تحت نفس الشروط يصير أعلى إحتمال للأجر الإجمالي حوالي ٨٫٥٪ ويوافق أجراً إجمالياً قدره ٢٦٠ جنيهاً. يمكن للقارئ مراجعة الحسابات بنفسه إذا كان يعرف بعض الشيء عن الاحتمال الرياضي.

نلاحظ هنا عدة أمور مهمة:

  • الأجر الأكثر احتمالاً في حال وجود ٤ وسطاء (٢٦٠ جنيهاً) لا يتوافق مع ٤ أمثال الأجر الأكثر احتمالاً للوسيط الواحد (٨٠ جنيهاً)—وإن كان لا يبتعد عنه كثيراً—على الرغم من تحقق نفس الشروط للوسطاء الأربعة.
  • الأجر الأكثر احتمالاً يقترب من منتصف المنحنى مع ازدياد عدد الوسطاء. لاحظ أنه كان أقرب إلى الجهة اليمنى في حالة وجود وسيط واحد.
  • التباين حول الأجر الأكثر احتمالاً يزداد كلما ازداد عدد الوسطاء، ففي حالة الوسيط الواحد نجده ما بين ٢٠ إلى ٣٠ جنيهاً حول الأجر الأكثر احتمالاً، بينما نجده حوالي ٧٠ إلى ٨٠ جنيهاً في حالة الوسطاء الأربعة. لاحظ أيضاً أن التباين في حالة الوسطاء الأربعة ليس أربعة أضعاف التباين في حالة الوسيط الواحد.

شكل المنحنى المعبر عن الاحتمال يقترب سريعاً من شكل الجرس المقلوب inverted bell، أو ما يعرف في الإحصاء بالتوزيع الطبيعي normal distribution. المقصود من هذا المثال توضيح أنه حتى تحت نفس الشروط البسيطة وكلما زاد عدد الأفراد (أو التجارب أو المشاهدات المستقلة independent) فإن الاحتمال النهائي يقترب من التوزيع الطبيعي. هذه نظرية رياضية تعرف باسم نظرية النهاية المركزية Central Limit Theorem، والحديث عن تفاصيلها يبتعد كثيراً عن سياق المقال الحالي، ولكن المراد قوله أن هذا المنحنى ’الطبيعي‘ نراه في أغلب المشاهدات في الطبيعة ويغلب استخدامه في تعريف ما هو طبيعي.

يتميز منحنى التوزيع الطبيعي بأن له قمة عند المنتصف ثم ينحدر بشكل متماثل على طرفيها، ويمكن تقييم درجة الانحدار نحو الطرفين بمعامل إحصائي يعرف بالانحراف المعياري standard deviation، ويرمز له عادة بالحرف اليوناني ’سيجما‘ σ، أما القمة نفسها فهي تعبر عن الوسط mean وهو أكثر القيم مشاهدة واحتمالاً، ويرمز لها عادة بالحرف اليوناني ’ميو‘ μ، وتوجد أكثر من ٩٥٪ من المشاهدات التي تتبع التوزيع الطبيعي في حدود انحرافين معياريين حول الوسط بينما توجد تقريباً كل المشاهدات باستثناءات بسيطة جداً في حدود ثلاثة انحرافات معيارية حول الوسط.

Empirical Rule.PNG
رسم توضيحي للتوزيع الطبيعي بواسطة Dan Kernler مرخص بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - الترخيص بالمثل 4.0 دولي . الصورة الأصلية في الرابط.

ويبدو من المعقول أن يكون الطبيعي في حدود انحرافين معياريين من الوسط وألا يكون خارج ثلاثة انحرافات معيارية من الوسط، واستقر العرف في العلوم الطبيعية على أن الطبيعي هو ما بين انحرافين معياريين من الوسط، ويشمل حوالي ٩٥٪ من المشاهدات، وهذا رقم معقول جداً ليمثل ما يمكن اعتباره شائعاً بما يكفي ليسمى ’طبيعياً‘.

هذا العرف مستخدم في المجال الطبي وعلوم الأحياء بشكل يكاد يكون مطلق، والتجارب الإكلينيكية تحدد نسبة مقبولة للخطأ الناتج عن الصدفة type II error هي ٥٪، وهي تتوافق مع نسبة ٩٥٪ المذكورة سابقاً (وإن كانت ليست نفس المعنى على وجه الدقة)، وفي التجارب التي يراد فيها تقليل هذا الخطأ إلى أقصى حد تكون النسبة المقبولة للخطأ الناتج عن الصدفة ١٪، وهو ما يتوافق تقريباً مع النسبة المحصورة في ثلاثة انحرافات معيارية حول الوسط (ون كانت ليست نفس المعنى بالضبط)، ولا تتعين النسبة المقبولة لمثل هذا الخطأ بأقل من ١٪ أبداً في مرحلة الإعداد للدراسة (لأسباب إحصائية تخرج عن سياق هذا المقال).

وكل القياسات المعملية والإكلينيكية تتحدد بنفس الطريقة. على سبيل المثال، نسبة السكر الطبيعية في الدم تتراوح ما بين ٨٠ إلى ١١٠ (أو ١٢٠ على حسب نوع الفحص المستخدم) مجم/١٠٠ مل ومعدل ضربات القلب الطبيعي في حالة الراحة من ٦٠ إلى ٩٠ في الدقيقة. هذه النسب يتم تحديدها بناء على نفس المبادئ المشروحة عاليه. قس على ذلك كل التجارب والمشاهدات العملية في كل فروع العلوم التجريبية.

في عرف العلم ٩٥٪ من المشاهدات حول الوسط هي ما يسمى طبيعياً.

فماذا عما لا يدخل في النطاق الطبيعي المتعارف عليه؟

ليس كل ما لا يدخل في النطاق الطبيعي هو بالضرورة سيئاً ولا هو بالضرورة جيداً. نسبة الخمسة في المئة التي تعد خارج النطاق الطبيعي منها ٢٫٥٪ تحت النطاق الطبيعي ونسبة مساوية فوق النطاق الطبيعي، وهذه المشاهدات التي تقع على أطراف التوزيع الطبيعي قد تكون دلالة على اختلال وظيفي أو قد تكون مجرد مشاهدات متطرفة بدون أي اختلال وظيفي.

Miguel Indurain (Tour de France 1993).jpg
صورة للرياضي ميجيل إندورين بواسطة ta_do مرخص بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - الترخيص بالمثل 2.0 عام . الصورة الأصلية في الرابط.

المشاهدات التي تقع خارج النطاق الطبيعي تدعو للدراسة بشكل أعمق للبحث عن أسباب ابتعاد هذه المشاهدات عن الوسط، ولكنها في حد ذاتها لا تعني بالضرورة أي شيء. فمثلاً الرياضي ميجل إندورين Miguel Induráin سجل أقل معدل لضربات القلب في حالة الراحة وصل إلى ٢٨ في الدقيقة، والسبب في ذلك هو لياقته البدنية الفائقة، بينما هناك الكثيرون ممن يعانون من اضطراب في وظيفة الجديلة الكهربية bundle of His للقلب مما يؤدي إلى تناقص معدل ضربات القلب.

كمثال آخر نجد لاعب كرة القدم الأمريكية جارد جيذر Jared Gaither يبلغ من الطول ٢٠٦ سنتيمتراً ولاعب الكرة الطائرة الأمريكي مات أندرسون Matt Anderson يبلغ من الطول ٢٠٢ سنتيمتراً، وكلاهما لا يعانيان من أي أمراض. متوسط الطول الطبيعي للرجل البالغ في الولايات المتحدة هو ١٧٥ سنتيمتراً ويتراوح ما بين ١٧٠ إلى ١٨٥ سنتيمتراً. ومن المعروف أن بعض الأمراض مثل أورام الغدة النخامية pituitary tumours قد تؤدي إلى إزدياد النمو بشكل مرضي خارج النطاق الطبيعي.

ما أود التأكيد عليه هنا أن المشاهدات الواقعة خارج النطاق الطبيعي ليست بالضرورة شيئاً جيداً ولا هي شيئاً سيئاً، وإنما هي مدعاة للدراسة والفحص لتحديد معناها.

ارتبط في الأذهان أن غير الطبيعي abnormal هو بالضرورة شيء سيء أو مرضي، وهذا مفهوم خاطئ. الخطأ هنا هو في اعتبار غير الطبيعي حتماً حالة مرضية، وليس في القلق بخصوص ما يخرج عن النطاق الطبيعي، ووصف شيء ما أو سلوك ما بأنه غير طبيعي ليس بالضرورة إهانة أو تحقيراً. الشجاعة الفائقة مثلاً غير طبيعية، ولكن قلما تجد من يعتبر وصفها بأنها غير طبيعية نوعاً من الإهانة. وحتى في العلوم الطبية نجد أن توصيف شيء على أنه غير طبيعي لا يكافئ توصيفه على أنه مرض disease، ولا توصيف شيء على أنه طبيعي ينفي وجود أي مرض من أي نوع تماماً. المصطلحان مختلفان شكلاً وموضوعاً، والخلط بينهما جهل أو تدليس.

والطبيعي من الأشياء يفهم في سياقه فقط

من الطبيعي أن تجد زهوراً تنمو على أغصان بعض الأشجار، ومن الطبيعي أن تجد ذيلاً للكثير من الحيوانات، ومن الطبيعي أن يكون لون النباتات أخضر، ومن الطبيعي أن يكون للطيور أجنحة. لا نختلف على ذلك.

ولكن هل من الطبيعي أن تجد إنساناً لونه أخضر تنمو من أذرعته زهوراً وله ذيل وجناحان؟ وجود شيء بشكل طبيعي في سياق معين لا يعني أبداً كونه طبيعياً في سياق مختلف.

لعل القارئ يذكر من دروس العلوم أن الجهاز الدوري في الإنسان يتكون من القلب والأوعية الدموية، وأن القلب يتكون من حجرات أربع هما الأذينان atria والبطينان ventricles، وهذه الحجرات الأربع مفصولة عن بعضها البعض بصمامات valves تفتح وتغلق في أوقات محددة، وعمل هذه الصمامات بهذا الشكل في غاية لأهمية للوظيفة الطبيعية للقلب في الإنسان.

Differential Grasshopper 01.jpg
صورة جرادة بواسطة Babbage مرخص بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - الترخيص بالمثل 4.0 دولي . الصورة الأصلية في الرابط.
Cane toad
صورة ضفدع بواسطة brian.gratwicke مرخص بموجب رخصة المشاع الابداعي رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 2.0 عام . الصورة الأصلية في الرابط.

لكن ربما لا يعرف القارئ أن الكثير من الحشرات مثل الجرادة ليس لها جهاز دوري مكون من أوعية دموية يسري فيها الدم مثل الإنسان، وإنما يخرج الدم haemolymph من شريانها الأورطي ليغرق الأحشاء الداخلية ويعود إلى قلب الحشرة من فتحات فيه. هذا هو ’الطبيعي‘ بالنسبة للحشرة.

وربما لا يعرف القارئ أيضاً أن الجهاز الدوري لمعظم من الأسماك يحتوي على قلب مكون من غرفتين فقط. هذا أيضاً هو ’الطبيعي‘ بالنسبة للأسماك. أما الجهاز الدوري في البرمائيات amphibians مثل الضفادع فيحتوي في طورها الأرضي على قلب يتكون من ثلاث غرف هي أذينان وبطين واحد. هذا أيضاً هو ’الطبيعي‘ بالنسبة للضفادع. في الإنسان، وجود ثقب بين البطين الأيمن والبطين الأيسر يجعله شبيهاً إلى حد ما بقلب الضفدعة، لكن هذا الثقب على حسب حجمه قد يؤثر على وظيفة القلب بشكل جسيم قد يؤدي إلى الوفاة إن لم يعالج. هناك حالة مرضية تعرف باسم رباعية فالو Tetralogy of Fallot يكون فيها الثقب بين البطينين كبيراً مع بعض العيوب الأخرى في تكوين القلب، وتؤدي إلى الوفاة ما لم يتم علاجها جراحياً.

الطبيعي أننا بوجه عام عندما نسخن الأشياء يزداد حجمها لأنها تتمدد بالحرارة. الأخشاب إذا تم تسخينها في جو جاف تنكمش، وهذا بالفعل جزء من تحضير الأخشاب wood drying لاستخدامها تجارياً، لأنها تفقد بعض الماء الموجود فيها والذي يؤدي وجوده إلى امتلاء الخلايا النباتية وازدياد حجمها. المعادن عندما نرفع درجة حرارتها بشدة تنصهر وتتحول للحالة السائلة، بينما الأخشاب إذا رفعنا درجة حرارتها بشكل مماثل في وجود الأكسجين ستحترق. ما هو ’طبيعي‘ بالنسبة للمعادن ليس ’طبيعياً‘ بالنسبة للأخشاب.

لكننا نواجه صعوبات جمة مع البعض في هذا الزمان عندما يتعلق الأمر بالسلوك الإنساني، ونراهم يصرون بكل حدة على أن وجود سلوك معين في عدد من أنواع الكائنات في الطبيعة يعني بالضرورة أن هذا السلوك ’طبيعي‘ في الإنسان، خالطين بين كلمة طبيعي natural بمعنى ’موجود في الطبيعة‘ وبين كلمة طبيعي normal بمعنى ’شائع في الطبيعة‘، ومتناسين أن الطبيعي بمعنى الشائع يجب أن يُفهَم في سياقه ولا يمكن أن نمد الخط على استقامته لنعمم الظاهرة على كل شيء، ومتناسين أن الإنسان يختلف اختلافاً جذرياً عن أي كائن آخر مما يجعل مقارنة السلوك الإنساني بسلوك الحيوان مقارنة في غير محلها، ومصرين على أن وصف سلوك معين بأنه غير طبيعي هو بالضرورة وصم صاحب السلوك خطأ بالمرض، مرتكبين في ذلك مغالطة أوضحتها قبلاً.

ولكن لهذا حديث آخر ومقال آخر إن كان في العمر بقية


نسب المصنفات

باستثناء المصنفات المنسوبة أعلاه، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دوليرخصة المشاع الابداعي.

الأربعاء، 9 أغسطس 2017

القاسم المشترك والمضاعف المشترك

هذه التدوينة هي من سلسلة تدور حول الرياضيات. هذا الرابط يحتوي على قائمة بالتدوينات المتعلقة بهذا الموضوع.


المقال السابق: الأعداد الأولية


بما أن الأعداد الأولية كما ذكرنا في المقال السابق لا يمكن التعبير عنها في شكل حاصل ضرب أي عددين غير نفسها والواحد الصحيح، أي أنها لا تتحلل إلى أعداد أبسط، فإن الأعداد الأولية تعتبر بشكل أو بآخر ’الوحدات البنائية‘ للأعداد التركيبية، مثلها مثل الذرات للمواد، فكما أن غاز ’الميثان‘ مثلاً يتكون من ذرة كربون و4 ذرات هيدروجين، فإن العدد 72 يتكون من ثلاثة من العدد 2 واثنين من العدد 3 لأن \(2 \times 2 \times 2 \times 3 \times 3 = 72\)، إلا أن هناك فرقاً مهماً جداً في التشبيه، وهو أن ترتيب الذرات في المركبات الكيميائية ينتج مركبات مختلفة من نفس العدد من الذرات، فمثلاً سكر ’الجلوكوز‘ وسكر ’الفركتوز‘ وسكر ’الجلاكتوز‘ كلها تتكون من 6 ذرات كربون و12 ذرة هيدروجين و6 ذرات أكسجين، غير أن ترتيب الذرات في المركب الكيميائي يختلف من هذا إلى ذاك فينتج مركبات مختلفة، لكن لأن عملية الضرب عملية تبادلية كما أوضحنا سابقاً، فإن أي عدد معين من الأعداد الأولية ينتج عدداً تركيبياً واحداً فريداً كما أوضحنا في المقال السابق، فلا يهم في حالة العدد 72 مثلاً إذا كتبنا حاصل الضرب في صورة \(2 \times 3 \times 2 \times 3 \times 2\) أو في صورة \(2 \times 3 \times 3 \times 2 \times 2\) أو غيرها، فكلها في النهاية ستعطينا العدد 72.

الأحد، 16 أبريل 2017

الإسلام يؤذينا: الهوية الإسلامية


المقال السابق: من يمثل الإسلام


الهوية (identity) هي شعور فردي شخصي للإنسان يعبر عن صفاته الجوهرية المميزة له، وهوية الفرد تميزه عن غيره باختلاف بعض صفاته الجوهرية عن صفات الآخرين، كما تجمعه مع غيره بتشابه بعض تلك الصفات مع صفات الآخرين، ولا يوجد إنسان يمكن أن يقال عنه بلا هوية. والكلمة الإنجليزية (وفي اللغات الغربية بوجه عام) مشتقة من اللاتينية المتأخرة identitās التي هي بدورها مشتقة من اللاتينية idem بمعنى ’الشيء نفسه‘ كما في قولنا ”خلف جمال عبد الناصر في رئاسة الجمهورية محمد أنور السادات، وهو نفسه رئيس الجمهورية وقت حرب ١٩٧٣“، والكلمة العربية بهذا المعنى مستحدثة وهي من النسب إلى الضمير ’هُوَ‘، ونطقها لذلك ’هُوِيَّة‘ بضم الهاء وليس بفتحها، أما كلمة ’هُوية‘ بضم الهاء في أصل اللغة فهي تصغير ’هُوَّة‘ وتعني ’البئر‘، وكلمة ’هَوِيَّة‘ بفتح الهاء صيغة مبالغة على وزن ’فعيلة‘ من فعل ’هَوَى‘، وهي المرأة التي تهوى أي تعشق.

الجمعة، 14 أبريل 2017

الإسلام يؤذينا: من يمثل الإسلام؟


المقال السابق: كيف ارتدت مصر النقاب

هذا السؤال يتردد كثيراً، وخصوصاً في العقدين السابقين وبعد انتشار العمليات الإرهابية ذات الدافع الإسلامي، ولعل أشهرها وما أظهر للعالم أن الإسلام فكر إرهابي كان الهجوم على برجي مبنى التجارة العالمي عام ٢٠٠١ وما تلاه من تغيرات على المستوى الدولي لم تترك إنساناً في العالم إلا وكان لها عليه أثر سلبي بشكل أو بآخر، فتغيرت سياسات الدول ونظم تأمين المطارات وصار التنقل من مكان لآخر في العالم أصعب من ذي قبل، واكتسب الفكر الجهادي الإسلامي ثقة في نفسه كما استطاع أن يجتذب الحالمين بعودة مجد الإسلام وعزته متمثلاً في الخلافة.

الخميس، 13 أبريل 2017

الإسلام يؤذينا: كيف ارتدت مصر النقاب

كنت أتحدث مع صديق أعرفه من أكثر من ٢٠ عاماً، وبالطبع كان موضوع الحديث الرئيسي تفجير كنيستين في مصر في مدينتي طنطا والإسكندرية بالأمس، وتطرق الحديث إلى عدة نقاط آثرت أن أجمعها في تدوينة أو أكثر لكي أذكر نفسي بها ولعل أحداً يهتم أن يقرأها.

تطرق الحديث أولاً إلى البديهي: الإسلام ودوره في بث الكراهية في النفوس وتفريخ الإرهاب في العالم، ولم نختلف كثيراً على هذا. الاختلاف كان على بداية المرحلة الحالية من تاريخ مصر المعاصر، والتي شهدت تسارعاً في أسلمة كل ما هو مصري والتضييق على كل ما هو ليس إسلامياً مما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من الأقباط إلى بلاد المهجر وتغير المجتمع المصري شكلاً ومضموناً. كان رأيي أن عصر السادات كان بداية هذا التسارع بعد أن أطلق السراح لتيارات الإسلام السياسي لإحداث ’توازن‘ مع خصومه السياسيين من التيارين الناصري والاشتراكي، بل وقام بدعم هذه التيارات وخصوصاً في الجامعات، ونعرف أن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح كانت له مواجهة مع الرئيس الراحل السادات سنة ١٩٧٧ كان وقتها رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وهو ما يعكس انتشار التيار الإسلامي في الجامعات في السبعينات، وكان يعترض فيها على عزل الشيخ محمد الغزالي من منصبه في مسجد عمرو بن العاص حيث كان شباب الجماعة الإسلامية يحضرون درسه كل جمعة.