يحتاج العقل البشري لأن يرى نظاماً ويرى سبباً ونتيجة، ولا يقنع بالفوضى ولا بعدم وجود أسباب، وذلك لأننا منذ أن نولد نرى النظام في الكون، فالليل والنهار يتعاقبان بلا كلل، وفصول السنة الأربعة تتتابع هي الأخرى، ويكاد يكون كل ما يدركه العقل البشري سبباً لنتيجة واضحة، والعقل يربط بين السبب والنتيجة بحدوث السبب قبل النتيجة في جميع أحوالهما، وفي المثل العربي القديم قالوا ”الَأثَر يدل على المسير والبَعَر يدل على البعير“، وفي العامية المصرية ”ما فيش دخان من غير نار“، فالبحث عن الأسباب هو من الخصائص الأصيلة في العقل البشري، وهو الذي جعل البشر يصلون إلى ما هم عليه من تقدم وعلم.
فماذا إن لم يجد العقل البشري سبباً لظاهرة ما أو شيء ما؟ لا يقنع بذلك، بل يبحث عن السبب ويوجِِد سبباً إن لم يجد سبباً يفهمه. في الحضارة الإغريقية لم يعرف البشر سبب حدوث البرق في السماء، ففسروه على أنه سلاح الإله زيوس (Zeus) الذي صنعته له الإلهة أثينا، وفي حضارة الڤايكنج فسره البشر على أنه سلاح الإله ثور (Thor) صاحب المطرقة التي تصدر صوت الرعد عندما يطرق بها، وفي قصص بعض السكان الأصليين لأمريكا الشمالية يحدث الرعد عندما يخفق طائر الرعد (Thunderbird) المقدس بجناحيه في السماء، فيسبب مع الرعد الريح وهطول المطر، وفي الحضارة الهندية نجد الماروت (Maruts) وهم من الحراس المرافقين للإله إندرا ويحملون سيوفاً من الذهب (البرق) وصوتهم كزئير الأسود (الرعد)، والبحث في الحضارات القديمة يرينا الكثير من هذه الأمثلة: البشر يوجِدون سبباً بشكل أو بآخر لتفسير الظواهر التي يستحيل عليهم تفسيرها.
وعلى مر آلاف السنين كانت مثل هذه التفسيرات مقبولة تماماً من كل البشر، فهل لم يكن فيهم ذو عقل رجيح يفكر في تلك الظواهر ويتحدى تلك التفسيرات الافتراضية؟ هناك احتمالين لا ثالث لهما في هذا الشأن، فإما أن مثل هؤلاء قد وُجِدوا وتحدوا تلك التفسيرات التي تفتقر إلى الأدلة الواضحة ولكن مجتمعاتهم لفظهتم كخوارج على العرف الاجتماعي ولم يُذكَر عنهم شيئاً في تاريخ تلك المجتمعات، وإما أنهم لم يوجدوا على الإطلاق. وأرى في الاحتمال الثاني بعداً عن المنطق السليم، فمن شبه المستحيل ألا يكون قد وجد وسط هؤلاء الملايين من البشر ذو عقل متميز. فلا يبقى لنا إلا الاحتمال الأول، وهو أن مثل هؤلاء كانوا خوارج عصرهم، ولنا في جاليليو جاليلي (Galileo Galilei) مثلاً واضحاً، إذ اضطهدته الكنيسة الكاثوليكية عندما قال أن الأرض ليست مركز الكون وأنها تدور في فلك الشمس، وأجبرته الكنيسة على ’التوبة‘ عما قال من هرطقات.
والحال لا تختلف كثيراً اليوم عن الأمس. الفرق الأساسي في حال البشر اليوم أنهم يتبعون المنهج العلمي التجريبي، فيفترضون سبباً للنتيجة ويضعون نموذجاً متكاملاً لهذا السبب ويدعمونه بالمعادلات الحسابية، ثم يجربون هذا النموذج ليروا إن كان يفسر بشكل مقنع الظواهر التي يرونها، فإن فسرها يقبلونه وإن لم يفسرها نبذوه.
وعلى سبيل المثال، فإن جون دالتون (John Dalton) عام ١٨٠٥ اقترح أن المادة مكونة من وحدات صغيرة (ذرات) غير قابلة للانقسام تحمل نفس خصائص المادة الكيميائية، وذلك لتفسير تفاعل العناصر مع بعضها البعض بنسب معينة ثابتة يكون فيها البسط والمقام أعداداً صحيحة، وقُبِلت هذه النظرية لأنها فسرت تلك الملاحظة ولم يكن هناك ما يعارضها أو يناقضها، وفي عام ١٨٩٧ اكتشف جوزيف جون طومسون (J. J. Thomson) الإلكترون كمكون من مكونات الذرة، ووضع نموذجاً للذرة (نموذج طومسون) يصفها فيه ككرة من الشحنات الموجبة تنغمس فيها الإلكترونات السالبة، فأضاف إضافة جديدة على فرضية دالتون، وكان نموذج طومسون للذرة مقبولاً حتى عام ١٩١١ حين أثبتت التجارب أن هذا النموذج لا يصلح لتفسير نتائج بعض التجارب، فوضع إيرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) نموذجاً جديداً للذرة تتركز فيه الشحنات الموجبة في نواة الذرة وتدور حولها الشحنات السالبة وتتكون فيه الذرة من فراغ في معظم حجمها، وما زال نموذج رذرفورد (Rutherford model) هو المقبول حتى الآن، وأضاف عليه نيلز بور (Niels Bohr) عام ١٩١٣ افتراض أن الإلكترونات تدور في مدارات محددة حول الذرة ولكل مدار منها طاقة معينة، وذلك أيضاً لتفسير بعض الظواهر الفيزيائية التي لم يكن تفسيرها ممكناً بدون هذه الإضافة للنموذج الذري.
ولم يتوقف تطور هذا النموذج عند هذا الحد، بل في عام ١٩٢٤ اقترح العالم لويس دي بروجلي (Louis de Broglie) أن الجزيئات لها خاصية موجية أيضاً، وفي عام ١٩٢٦ وضع إيروين شرودينجر (Erwin Schrödinger) نموذجاً حسابياً يصف الإلكترونات كموجات ثلاثية الأبعاد، ونتج عن هذا مبدأ عدم التأكد (uncertainty principle) الذي اقترحه ڤيرنر هايزنبرج (Werner Heisenberg) في نفس العام، وهذه المقترحات جاءت تفسيراً لبعض الظواهر الفيزيائية ونتائج التجارب التي لم يكن ممكناً تفسيرها باستخدام النموذج الأصلي للذرة. وفي عام ١٩٣٢ اكتشف العالم جيمس شادويك (James Chadwick) النيوترونات كأجسام ذرية غير مشحونة في نواة الذرة ذات كتلة مساوية للبروتونات، وكان النموذج من قبل لا يصف مثل هذه الأجسام بل يعتبر النواة كلها مكونة من جزيئات موجبة الشحنة. ثم في الخمسينات من القرن العشرين بدأ العلماء في وضع نموذج للجزيئات الذرية تتكون فيه المادة كلها من جزيئات صغيرة أصغر من الإلكترونات تسمى ’كوارك‘ (Quark)، وتفسر هذه النظرية الآن كل الظواهر الفيزيائية المعروفة المتعلقة بالذرة.
وهكذا نرى تطور الفكرة من دالتون حتى اكتشاف الكواركات، وذلك لأن الإنسان يستمر في البحث عن تفسيرات لما ليس له تفسير، ويستمر في وضع نماذج مختلفة لهذه التفسيرات، وفي كل مرة يرى في أحد هذه النماذج عيباً أو تناقضاً أو نقصاً يفكر في نموذج مختلف يداوي هذا العيب. لم يَرَ الإنسان الذرة ولا الجزيئات الذرية مطلقاً، لكن وضع تلك النماذج لتفسير الظواهر التي يراها و يختبرها ويستدل عليها بالتجربة وبالمنطق، ولم يَرَ الإنسان عيباً في أن يغير النموذج المقبول لتفسير ما يعجز عن تفسيره.
إلا في الدين...
النظرية الألوهية التي وضعها البشر منذ قديم الزمان لتفسير كل ما لا يستطيعون تفسيره بها تنص على أن للكون رب خالق وهو يملك من العلم والحكمة ما لا يمكن إدراكه، وعليه فإن استعصى على الإنسان تفسير أمر من الأمور عزا سبب هذا الأمر إلى علم الإله وحكمته الواسعتين وتوقف عن البحث عن سبب آخر لأنه بمنتهى البساطة لا يستطيع أن يدرك علم الإله وحكمته. النظرية في شكل أحاجيج منطقية (logical arguments) هي كالآتي:
- الإله له من العلم و الحكمة ما لا يُحْصَى، ويعلم كل ما في الكون لأنه خالقه
- هناك مشكلة لا يعرف الإنسان لها حلاً أو ظاهرة لا يعرف لها سبباً
- الإله يعرف كل شيء وبالتالي يعرف حل المشكلة أو سبب الظاهرة
- عقل الإنسان المحدود لا يستطيع أن يستوعب الإله بعلمه وحكمته الواسعتين
- على الإنسان ألا يحاول أن يستوعب ما لا يطيق استيعابه وأن يترك حل المشكلة وسبب الظاهرة لعلم الإله
والمشكلة الأساسية في تلك النظرية الألوهية أنها تحصن نفسها من التعديل بالحذف أو الإضافة أو التغيير، فكل ما هو أمر من الإله يجب اتباعه بدون تفكير لأن الإنسان لا يستطيع أن يستوعب حكمة الإله، وإن بدا في الأمر تناقض مع طبيعة الإنسان أو اختلاف مع المنطق فالسبب في هذا التناقض أو الاختلاف أن الإنسان قاصر الاستيعاب وليس أن النموذج يحتاج لتعديل. ولا يوجد في ذهني دين من الأديان على الأرض يؤمن بوجود إله أو أكثر ولا يؤمن بتلك النظرية بشكل أو بآخر.
النظرية الألوهية الموجودة في الأديان مريحة للإنسان لأنها تكفيه عناء التفكير وتمنحه الشعور بالأمان، فإن أعياك التفكير في شيء ما، فعليك أن تذكر أن هناك ما لا يمكن إدراكه وتترك الأمر برمته للإله، وإن كانت هناك مشكلة تؤرقك أو طاغية يظلمك، فالإله سينتقم لك طالما أطعته وأرضيته. وفي كل دين من الأديان نموذج ألوهي يختلف عن غيره، ويصف هذا النموذج الإله أو الآلهة ويعدد قدراتهم الخارقة ويحدد العلاقة بين الآلهة وبين البشر وبين الآلهة وبعضهم البعض إن كان يصف أكثر من إله. وسواءً كان النموذج الألوهي توحيدي (يؤمن بإله واحد) أو يصف عدة آلهة، فإن كل النماذج تشترك في النظرية الألوهية وفي قصور الفكر الإنساني مقارنة بالإله أو الآلهة.
والطريف في الأمر أن أغلب أتباع الأديان يؤمنون إيماناً عنيفاً بأن ما هم عليه هو الحق وليس سواه. منهم من يؤمن بذلك بشكل سلمي ويحيا حياته على الأرض مهتماً بشؤونه الشخصية، ومنهم من يؤمن بأن نشر الدين يكسبه ثواباً فيطوف يدعو الباقين لدينه، ومنهم من يؤمن بأن نشر الدين واجب وفرض لا بد منه وأن القضاء على باقي الأديان هو الصواب بعينه وهو الحق المبين. أيها المغفلون من الفئة الأخيرة، ألا تدركون أن المنطق السليم لا يفضل دينكم على غيره، بل لا يفضل دينكم على رفض الدين والإلحاد؟
المفكر العاقل غير المتحيز لا بد أن يدرك أن النظرية الألوهية ما هي إلا نظرية مثل باقي النظريات تفسر للإنسان خلق الكون ووجود البشر على الأرض والهدف من الحياة وتعطي الإنسان أملاً في الحياة بعد الموت، وليس هناك دليل واحد على صحة هذه النظرية، غير أنها مقبولة بكل تأكيد إن لم يوجد في النموذج الألوهي الخاص بها ما يتعارض مع المنطق السليم أو مع ما نلاحظه في حياتنا وما يحيط بنا، تماماً كما كان النموذج الذري لدالتون مقبولاً (بالرغم من خطئه) طالما كان يفسر الملاحظات والظواهر الموجودة قبله، لكن بمرور الزمن وبظهور ما يستدعي تغيير هذا النموذج، ظهر نموذج رذرفورد ثم النموذج القياسي للفيزياء الجزيئية (standard model of particle physics) الذي يصف الكواركات.
لكنني أعود فأكرر أن المشكلة في النظرية الألوهية والنموذج الألوهي أن هذا النموذج محصن ضد التغيير بنص النظرية الألوهية، وبالتالي فإن المؤمنين بنموذج ما من النماذج الألوهية يسعون لتفسير كل ما حولهم بما يتفق مع النموذج الألوهي وليس لإعادة النظر في النموذج الألوهي ليتفق مع ما يرونه حولهم. ولو كان هذا مقبولاً لكان الإنسان لا يزال يعتقد أن الأرض هي مركز الكون. غير أن هذا مرفوض في العلم ومقبول في الدين (أو على الأقل مقبول عند البعض أو في بعض الأديان)!
وأنا أفكر بمنطق بسيط جداً. إن كان هناك رب خالق هو المسؤول عن وجودي في هذا الكون وهو الذي أعطاني العقل، فلا بد أنه أعطاني إياه لكي أفكر به وليس لكي ألغيه، وإذا استخدمت عقلي بحثاً عن هذا الخالق فلا يُعْقَل أن يغضب الخالق مني وهو الذي أعطاني العقل، فإن رأى العقل أن النماذج الألوهية الموجودة لا تفسر ما يدركه في الكون، فربما تكون النماذج في حاجة إلى تعديل، وربما تكون الفرضية كلها خاطئة وليس هناك من خالق ولا رب، تماماً كما كانت هناك فرضية تحويل التراب إلى ذهب والتي أضاع العديدون من البشر وقتهم وجهدهم ومالهم سعياً وراءها (وإن كانت هذه الفرضية هي التي تطورت لتصبح علم الكيمياء الحديث).
فهنيئاً لكم أيها النائمون في عسل اليقين، وتعساً لي فإني لا أستطيع أن أكف عن التفكير، ولن يهدأ لي بال حتى أرى النموذج الألوهي الذي يفسر الكائن والموجود، وليس الذي يطوع الكائن والموجود ليتفق معه. من أراد أن يشاركني برأيه فمرحباً به، ولكن أرجو ممن يريد المشاركة أن يعرض نموذجه الألوهي الخاص بدينه (أي أن يصف لي إلهه)، وألا يفترض أن نموذجه هو الوحيد الحق، فمن يفترض ذلك في نظري هو أجهل من دابة ولا طائل من مناقشته ولا الاستماع لرأيه.
وهذا رأيي حتى أقرأ هذين الكتابين
There Is a God: How the World's Most Notorious Atheist Changed His Mind
The God Theory: Universes, Zero-Point Fields, and What's Behind It All
نسب المصنفات
باستثناء المصنفات المنسوبة فيما يلي، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
- رسم تخيلي للإله ثور: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- جاليليو جاليلي: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- العالم نيلز بور: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- العالم جيمس شادويك: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- هتلر قائد ألمانية النازية: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- رجل مسلح: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
- صورة للتخيل القديم لمدارات الأجرام السماوية حول الأرض: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق