بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 23 أكتوبر 2011

الكذب في المسيحية

هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات عن بعض المفاهيم في المسيحية. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.

Pinocchio Meets Jiminy Cricket
الشخصية الخيالية بينوكيو[١]

الكتاب المقدس ينقسم إلى قسمين اساسيين هما العهد القديم والعهد الجديد وما يفصل بينهما هو مجيء السيد المسيح، فكل الكتاب قبل مجيء السيد المسيح هو العهد القديم، وكل ما بعد مجيئه هو العهد الجديد.

المسيحيون يؤمنون بكل من الكتابين، وهم معاً يشكلون الكتاب المقدس في الإيمان المسيحي. فماذا ذكر عن الكذب في العهد القديم؟

قال الرب لموسى النبي:

وَهذِهِ هِيَ الأَحْكَامُ الَّتِي تَضَعُ أَمَامَهُمْ:... اِبْتَعِدْ عَنْ كَلاَمِ الْكَذِبِ (خروج ٢١ : ١ و ٢٣ : ٧)

وذكر أيضاً في العهد القديم آيات متعددة تدل على كراهية الله للكذب ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:

كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ. (أيوب ١٢ : ٢٢)
تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ. (مزمور ٥ : ٦)

وحدث في العهد القديم أن إسحق خاف وكذب عند مجيئه إلى جرار وقال عن رفقة امرأته أنها أخته (تكوين ٢٦)، وتمر الأيام ويكذب يعقوب على أبيه إسحق ليأخذ بركة الابن البكر (تكوين ٢٧)، ثم تمر الأيام أيضاً ويكذب بنو يعقوب عليه مدعين أن يوسف أخاهم افترسه وحش رديء (تكوين ٣٧)، وربما كان في هذا عظة ودرساً أن بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ (مرقس ٤ : ٢٤)

في العهد الجديد لم يُضِف السيد المسيح للوصية شيئاً أو يغيرها، وأكد عليها بولس الرسول في رسالاته:

لِذلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ، وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ (أفسس ٤ : ٢٥)
لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ (كولوسي ٣ : ٩)

تأكد المفهوم في سفر الرؤيا أن الكذبة لا مكان لهم في ملكوت السموات:

وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي........وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا (رؤ ٢١ : ٨ و ٢٧)

إذاً فالكذب في المسيحية غير وارد على الإطلاق لمن يريد أن يتبع وصايا الله للبشر. و يحضرني هنا سؤال هام جداً و هو:

ما موقف من يؤمن بالسيد المسيح و يريد أن يخفي إيمانه (أي يكذب أمام الناس)؟

دعونا نبدأ بأمثلة من العهد القديم لنرى كيف كان القديسون يعلنون ايمانهم بالله من دول خوف ولا تردد.

129.Shadrach, Meshach and Abednego in the Furnace.jpg
الفتية الثلاثة في أتون النار[٢]

من أشهر الأمثلة في العهد القديم هو مثال الفتية الثلاثة ’شدرخ‘ و’ميشخ‘ و’عبدنغو‘. أمر ’نبوخذنصر‘ بصنع تمثال طوله ستون ذراعاً من الذهب وأمر في الشعب أن يسجدوا للتمثال وإلا يُلقوا في أتون النار المتقدة. رفض الفتية الثلاثة السجود للتمثال فحمى عليهم غضب الملك وألقاهم في أتون النار الذي كان محمياً سبعة أضعاف حتى أن الذين القوهم فيه قتلوا من شدة النار، فرآهم يتمشون في النار ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة. فنادى عليهم فخرج الثلاثة ولم تحترق شعرة من رؤوسهم ولم تأت عليهم رائحة النار (دانيال ٣).

Daniel's Answer to the King
دانيال في جب الأسود[٣]

وبالطبع لا ننسى ’دانيال‘ النبي حين أمر داريوس ملك الفرس بأن من يطلب طلبة من إله أو إنسان لثلاثين يوماً يلقى في جب الأسود، فما كان من دانيال حين علم بالأمر إلا أنه ذهب إلى بيته ’وكواه مفتوحة‘، أي أنه أراد عن يظهر إيمانه بالله، فصلى وسجد ثلاث مرات في اليوم كما كان يفعل، فاشتكاه الحاقدون عند الملك فألقاه في جب الأسود وسدّ الجب بحجر وختم عليه، فسد الله أفواه الأسود فلم تمسس دانيال بأذى، فعلم الملك في فجر اليوم التالي، فأخرج دانيال وأمر بشاكيه فألقوا في الجب هم وعائلاتهم ففتكت بهم الأسود (دانيال ٦).

وكانت وصية السيد المسيح لنا في العهد الجديد واضحة وصريحة:

فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. (متى ١٠ : ٣٢ - ٣٣)

وأكد بولس الرسول على هذا المفهوم قائلاً:

إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نُنْكِرُهُ فَهُوَ أَيْضًا سَيُنْكِرُنَا. (٢ تيموثاوس ٢ : ١٢)

وكذلك يوحنا الرسول في رسالته:

كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابْنِ فَلَهُ الآبُ أَيْضًا. (١ يوحنا ٢ : ٢٣)

The Denial of St. Peter - Gerard Seghers - Google Cultural Institute.jpg
بطرس ينكر المسيح[٤]

ونعرف قصة بطرس تلميذ المسيح الغيور الذي قال أنه يمضي إلى الموت مع المسيح ولا ينكره، ولكنه ضعف وأنكر المسيح ثم عاد فحزن وبقى بكاء مراً وندم على فعلته (متى ٢٦ ومرقس ١٤ ولوقا ٢٢ ويوحنا ١٨). ولتوبته غفر له السيد المسيح (يوحنا ٢١)، ثم إنه عاد فبشر بالمسيح أمام الآلاف من اليهود (أعمال الرسل ٢) حتى أن نحو ثلاثة آلاف نفس آمنوا في ذلك اليوم، ثم عاد فبشر بالمسيح في الهيكل (أعمال الرسل ٣) حتى أن عدد الرجال (من دون النساء) صار خمسة آلاف من المؤمنين، وألقي في السجن ثم اعترف بالمسيح والشيوخ والكتبة الذين سجنوه، ثم سجنه هيرودس أيضاً من أجل علانية إيمانه وتبشيره (أعمال الرسل ١٢) ويقول لنا التقليد الكنسي أنه مات مصلوباً منكس الرأس على يد الملك الروماني نيرون.

وقصة بطرس الرسول مشهورة لأنه أنكر المسيح أولاً لخوفه من العواقب، ثم عاد فندم وجاهر بالإيمان وبشر بالمسيح وقُتِل على إسمه. ولكن التاريخ الكنسي مليء بالشهداء والمعترفين والقديسين الذين نالوا من العذاب أشكالاً من أجل اعترافهم العلني بإيمانهم المسيحي، ومنهم من عاش بعاهة مستديمة ومنهم من قُتِل. والأمثلة أكثر من أن تحصر.

إذاً فلا كذب في المسيحية مطلقاً، حتى وإن كانت حياة المؤمن في خطر من قول الحق، وخاصة إذا كان هذا الحق يتعلق بالإيمان المسيحي. ولا نصيب لمن ينكر المسيح على الأرض في ملكوت السموات.

لا يصح أن يبيح الله الكذب وقد نهى عنه، حتى وإن كان المؤمن في ضيق. وأي إيمان ذلك الذي ينكر في الضيق ويشهر في الرحب والسعة؟ أي إيمان ذلك الذي ينكر في الضعف ويشهر في القوة؟ الإيمان ثابت لا يتزعزع ولا يتغير بالأحوال المحيطة، ورب الإيمان قادر على المجازاة العادلة في الدنيا أو الآخرة لمن يتمسك بإيمانه. أو لعله غير قادر على حماية المؤمن المجاهر بالإيمان من الضيق أو تعويضه عنه؟

لا كذب في المسيحية مطلقاً يا سادة، ولا يعني هذا أن كل المسيحيين شرفاء وصادقون، ولكن يعني أن من يريد من المسيحيين أن يلتزم بتعاليم دينه لا يكذب على الإطلاق، وإن كان السيف على رقبته.

المسيحي لا يكذب ولا ينكر إيمانه يا سادة، وإلا فقد شركته مع المسيح وخسر الملكوت، ومن ثم صارت مسيحيته عديمة القيمة وكأنها لم تكن.

أكرر ما أكرره دائماً. إن فهمت فالحمد لله، وإن لم تفهم فاقرأ ثانية. وإن لم تكن تريد أن تفهم فسر في حال سبيلك ولا تزعجني بما لا طائل منه من المجادلات.


نسب المصنفات

باستثناء المصنفات المنسوبة فيما يلي، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دوليرخصة المشاع الابداعي.

  1. الشخصية الخيالية بينوكيو: صفحة ديفيد جرينوالد (David Greenwald على فليكر (Flickr)
  2. الفتية الثلاثة في أتون النار: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
  3. دانيال في جب الأسود: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
  4. بطرس ينكر المسيح: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق