بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 أبريل 2017

الإسلام يؤذينا: كيف ارتدت مصر النقاب

كنت أتحدث مع صديق أعرفه من أكثر من ٢٠ عاماً، وبالطبع كان موضوع الحديث الرئيسي تفجير كنيستين في مصر في مدينتي طنطا والإسكندرية بالأمس، وتطرق الحديث إلى عدة نقاط آثرت أن أجمعها في تدوينة أو أكثر لكي أذكر نفسي بها ولعل أحداً يهتم أن يقرأها.

تطرق الحديث أولاً إلى البديهي: الإسلام ودوره في بث الكراهية في النفوس وتفريخ الإرهاب في العالم، ولم نختلف كثيراً على هذا. الاختلاف كان على بداية المرحلة الحالية من تاريخ مصر المعاصر، والتي شهدت تسارعاً في أسلمة كل ما هو مصري والتضييق على كل ما هو ليس إسلامياً مما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من الأقباط إلى بلاد المهجر وتغير المجتمع المصري شكلاً ومضموناً. كان رأيي أن عصر السادات كان بداية هذا التسارع بعد أن أطلق السراح لتيارات الإسلام السياسي لإحداث ’توازن‘ مع خصومه السياسيين من التيارين الناصري والاشتراكي، بل وقام بدعم هذه التيارات وخصوصاً في الجامعات، ونعرف أن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح كانت له مواجهة مع الرئيس الراحل السادات سنة ١٩٧٧ كان وقتها رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وهو ما يعكس انتشار التيار الإسلامي في الجامعات في السبعينات، وكان يعترض فيها على عزل الشيخ محمد الغزالي من منصبه في مسجد عمرو بن العاص حيث كان شباب الجماعة الإسلامية يحضرون درسه كل جمعة.

وكان السادات في بداية حكمه قد قام باستفتاء الشعب على ما أطلق عليه آنذاك ’الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية‘، ووضع في ذلك الدستور المادة الثانية منه التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن، وكانت توجد مادة مشابهة في الدساتير القديمة ابتداء من الدستور الملكي الصادر عام ١٩٢٣ (مادة ١٤٩) ثم دستور ١٩٣٠ (مادة ١٣٨) الذي لم يدم طويلاً، ثم دستور ١٩٥٦ (حيث تقدمت لتصير المادة ٣) ، ثم اختفت من الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة الصادر عام ١٩٥٨ وعادت مرة أخرى في دستور ١٩٦٤ (المادة ٥) لكنها في كل هذا لم تذكر شيئاً عن التشريع، وإنما اكتفت بذكر الإسلام كدين للدولة واللغة العربية كلغة رسمية، فأضاف السادات عبارة ”ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع“ ووضعت كثاني مادة في الدستور. ولكي يكتسب السادات قاعدة شعبية استخدم عدداً من التعبيرات استمر يرددها ومن ورائه الإعلام مثل ’دولة العلم والإيمان‘ و’الرئيس المؤمن‘ و’رئيس مسلم لدولة مسلمة‘ و’ثورة التصحيح‘ و’سيادة القانون‘ وما شابه، وفي العموم لعب السادات على المشاعر الدينية للأغلبية المصرية المسلمة، وربما وافق هذا هوى في نفسه كزعيم إسلامي يشابه خليفة المسلمين. ومن الشائع أن السادات قال في المؤتمر الإسلامي في جدة إن الأقباط في خلال ١٥ عاماً إما سيهاجرون أو يسلمون أو يصيرون زبالين وماسحي أحذية، وكان هذا قبل توليه رئاسة الجمهورية، ولكن لم أجد توثيقاً يعتد به في هذه الشأن.

في نفس الوقت ظهر على الساحة الإعلامية شخصيات مثل الشيخ الشعراوي والدكتور مصطفى محمود الذي كان يقدم برنامجاً أسبوعياً اسمه ’العلم والإيمان‘ على شاشات التليفزيون المصري تختلط فيه المعرفة العلمية بالدين بالفلسفة بالخرافات والهراء في بعض الأحيان، فيما يشبه ما نراه الآن تحت اسم الإعجاز العلمي في القرآن. بنهاية السبعينات كانت التيارات الإسلامية قد تغلغلت في المجتمع المصري وتحول المناخ العام تحولاً ليس بقليل تجاه الإسلام الأصولي، وساعد على ذلك طبعاً إذاعة درس الشيخ الشعراوي أسبوعياً على تليفزيون الدولة الرسمي كل جمعة، والذي كان ينشر فيه الكراهية ضد الأقباط. وفي ١٩٧٧ بدأ عداء السادات للأقباط يتخذ منحى جديداً عندما رفض البابا شنودة زيارة إسرائيل مع الوفد المرافق للسادات ورفض فكرة التطبيع مع إسرائيل، ومنع الأقباط من زيارة القدس، وكان هذا في رأيي خطأ جسيماً من البابا شنودة إذ كان عليه الالتزام بواجبه ومنصبه الديني وعدم التدخل في السياسة بهذا الشكل السافر، وتصاعدت لهجة العداء ضد الأقباط تدريجياً حتى انتهت بتحديد إقامة البابا شنودة في الدير عام ١٩٨١ وعزله من منصبه (وقوبل القرار بتصفيق حاد في مجلس الشعب) في حزمة من القرارات أخذها السادات قبل اغتياله بفترة قصيرة، وأناب لجنة من ٥ أساقفة كلفهم ”بكسر حاجز التعصب والحقد والكراهية وبث روح المحبة والتسامح“، واختتم بعدها مباشرة كلمته بآية من القرآن فكانت آخر كلماته ”فانصرنا على القوم الكافرين“.

وفي عام ١٩٨٠ قام السادات بطرح تعديل دستوري على دستور ١٩٧١ تتغير فيه خمس مواد، واحدة منها هي الخاصة بتمديد فترة الرئاسة ’لمدد أخرى‘ بدلاً من ’مدة تالية متصلة‘، وربما كان يتوقع السادات (أو يريد) أن يحكم مصر لسنوات طويلة تنتهي بانتهاء حياته بشكل طبيعي، وواحدة منها استمرت في اتجاه أسلمة الدولة الذي بدأه، فتعدلت المادة الثانية ليكون منطوقها ”مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع“ بإضافة لام التعريف، فصارت بهذا الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي الوحيد للتشريع بعد أن كانت من أحد المصادر الرئيسية. وبالطبع وافق الأغلبية على التعديل لأن المناخ العام كان مهيئاً بعدة عوامل أهمها انتشار الإسلام الأصولي.

وفي نفس العام أيضاً قام السادات بدعم المجاهدين الأفغان بالسلاح والعتاد والأموال والتدريب، ودعا الشعب إلى دعمهم واستقبل بعض قياداتهم، وفتح المجال لجمع التبرعات لدعم اللاجئين الأفغان والشعب الأفغاني المسلم الشقيق، وقال إن مصر ستدعم المجاهدين الأفغان بكل ما في الإسلام من قوة. وقامت النقابات المهنية التي كانت تحت سيطرة الإخوان المسلمين وقتها بجمع أموال طائلة تحت هذا الستار، وذهب الكثيرون من المصريين الذين كانوا قد تأثروا بالفكر الجهادي إلى أفغانستان للمشاركة في الجهاد، وكانت الدولة آنذاك تدعم ذلك كله. وانتهت تلك الفترة باغتيال السادات في ٦ أكتوبر عام ١٩٨١ في حادث المنصة الشهير على يد الجماعات الإسلامية التي ساعدها بنفسه في الانتشار في مصر. لكن تواجد الإسلام الأصولي في مصر لم يقف عند هذا الحد، بل كان قد وصل إلى الكتلة الحرجة التي كان يحتاجها للاستمرار في الانتشار، وإن كان ذلك التغلغل قد استمر تحت السطح إلى حد ما وليس كما كان الحال في عهد السادات.

وجاءت التسعينات بإرهابها. نمو الإسلام الأصولي في فترة الثمانينات مع عودة بعض من ذهبوا إلى أفغانستان للجهاد فتشبعوا هناك بالفكر الجهادي حتى النخاع أسفر عن إرهاب التسعينات الذي شهدت مصر بسببه اغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك عام ١٩٩٠، واغتيال الكاتب والمفكر فرج فودة عام ١٩٩٢، وكان بعض علماء الأزهر قد أفتوا بتكفيره، ومحاولة اغتيال الكاتب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ عام ١٩٩٥ بسبب اعتراض بعض الجهات الدينية الإسلامية على روايته ’أولاد حارتنا‘ بحجة الإساءة للذات الإلهية، ومحاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا عام ١٩٩٥، ثم مذبحة الأقصر التي راح ضحيتها ٥٨ سائحاً، وبالطبع في تلك الفترة كان الاعتداء على الأقباط وممتلكاتهم، وبالأخص في الصعيد مستمراً بفجاجة، وبدون اكتراث من الأمن وأحياناً تحت سمع وبصر الجهات الأمنية. جدير بالذكر أن قاتل فرج فودة لم يحكم عليه بالإعدام لأن الشيخ محمد الغزالي—الذي تتلمذ على يديه الكثيرون من أعضاء الجماعة لإسلامية منهم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح طبقاً لشهادته هو شخصياً كما هو في الفيديو أعلاه—أفتى بأن فرج فودة كان كافراً ودمه هدر، وأن كل ما فعله القاتل هو افتئات على السلطة لأن سلطة القتل في يد ولي الأمر.

لم يكن عهد حسني مبارك أفضل كثيراً من عهد سابقه، فظل البابا شنودة محدد الإقامة في الدير لأكثر من ٤٠ شهراً، واستمر إقصاء الأقباط المتعمد عن المناصب العليا في الدولة إلا القليل منها لتحسين الصورة العامة، واستمرت القيود على الأقباط في التعبير عن الرأي وبناء الكنائس، وصار الأمر القبطي موكولاً لأمن الدولة، فتحول أمن الأقباط إلى وسيلة مقايضة أو ضغط عليهم، وعقدت الصفقات مع التيارات الإسلامية المختلفة، فأطلق لهم العنان في النقابات والمحليات، وكذلك في المساجد والزوايا في الأرياف طالما لم يتدخل أي منهم في السياسة أو أمور الحكم، وكان العقاب شديداً لكل من يجرؤ على التدخل في السياسة، أما من كان يهاجم الأقباط ويسبهم علناً فكان يُترك وشأنه كنوع من تفريغ الكبت، وقبيل ثورة ٢٠١١ كان السلفيون يسبون البابا شنودة علناً في مظاهرة أمام مسجد النور. اهتم مبارك بإحكام قبضته على السلطة ولم يهتم كثيراً بإصلاح المجتمع الذي كان السوس قد بدأ ينخر فيه منذ أيام السادات، فتمكن الإسلام الأصولي من المجتمع المصري بعد أن كانت الحداثة قد وجدت طريقها إليه (ولو نسبياً) في الخمسينات والستينات.

كان صديقي يختلف معي ظاناً أنني أرى أن السادات كان السبب (بلام التعريف) في سيطرة التيار الإسلامي على مصر، واتفقنا سريعاً بعد توضيح أن رأيي أنه كان السبب في إسراع سيطرة التيار الإسلامي على مصر بشكل خطير، وساعد أيضاً على ذلك عاملان لهما علاقة بالسعودية، أولهما هو إرسال الإعارات إلى السعودية (والدول العربية الأخرى) بكثافة في السبعينات، وثانيهما أن السعودية أدركت بعد حرب ١٩٧٣ أهمية البترول للغرب، فزاد سعر برميل البترول فجأة من حوالي ٢٠ دولاراً للبرميل إلى ما يقرب من ٦٠ دولاراً للبرميل بعد الحرب، ثم إلى ما يقرب من ١٢٠ دولاراً للبرميل مع مطلع الثمانينات، فازداد دخل السعودية زيادة ضخمة مفاجئة في أقل من ١٠ سنين، وتدفقت عليها أموال غزيرة ساعدت نظامها في نشر الفكر الوهابي الذي ما زالت تنفق عليه مليارات الدولارات إلى الآن.

كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تضخم واستفشاء الإسلام الأصولي في مصر في العقود الماضية، وربما كانت هناك عوامل أخرى لكنني أرى أن العوامل السابق ذكرها أهمها على الإطلاق، حيث أنني مهتم بانتشار الفكر في المجتمع عموماً وليس بدوافع القيام بعمليات إرهابية. إلا إني اتفقت مع صديقي سريعاً على أمر واحد: الإسلام فكر إرهابي عنيف يرفض التعايش مع الآخرين في سلام، ويسعى دائماً إلى فرض سيطرته على كل من حوله، وإن لم يكن فرض السيطرة ممكناً فإنه يسعى إلى أن تكون له مكانة خاصة مميزة، ولا يؤمَن جانبه إلا حين يكون المسلمون أقلية في المجتمع ولا يشعرون أنهم ذوو قوة وسطوة، وهو ما يقال عنه ’فقه الأقليات‘ ومن أبرز من كتب فيه يوسف القرضاوي. كل من بُلِّغ بالإسلام ولم يَدِن به ولم يصدق نبيه ويتبع نهجه هو كافر، وكل كافر هو كائن أدنى من المسلم، وإن كان الإسلام يضع من يسميهم ’أهل الكتاب‘ في مكانة أعلى قليلاً من غيرهم من الكفرة.

بالطبع رأيي هذا ورأي صديقي الذي يوافقه له مبرراته الواضحة والكثيرة أيضاً، ونظرة على التاريخ توضح لنا أن الإسلام في كل مراحله ارتبط بالعنف والكراهية، وليس الارتباط في حد ذاته هو ما يعنيني فالارتباط لا يعني السببية بالضرورة (لكي لا ننجرف وراء ارتباط الكاثوليكية في العصور الوسطى بالعنف أيضاً) وإنما ما يعنيني هو استخدام بعض المسلمين لنصوص الإسلام الدينية منذ بداياته وحتى الآن في تبرير أفعالهم، وإرجاع دوافعهم إلى الدين، وما يعنيني هو سلامة منطقهم في هذه التبريرات فلا يمكن أن ندحض حجتهم إلا بهدم عدد من ثوابت الدين الإسلامي التي قبلها المسلمون ثوابت لقرون طويلة. ولكن هذا موضوع آخر لوقت آخر.

وللحديث بقية...


المقال التالي: من يمثل الإسلام؟

نسب المصنفات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق