على مر قرون عديدة، لم ير سكان العالم القديم أي بجعة سوداء. كل طيور البجع التي رآها الملايين من البشر في وقت مضى كانت بيضاء. لك أن تتخيل عدد المشاهدات التي تمت في هذه الفترة، وفي ظني لا تقل عن البلايين (آلاف الملايين) من المشاهدات، و كلها لم تجد دليلاً واحداً على وجود بجعة سوداء. بالطبع، من المنطقي جداً أن يظن سكان العالم القديم أن البجع الأسود غير موجود، مثله مثل التنانين والأحصنة المجنحة و غيرها من الكائنات الخرافية، ولا نلومهم على ذلك بكل تأكيد، ولكن هل عدم رؤية بجعة سوداء وسط هذه البلايين من المشاهدات هو بالفعل دليل على عدم وجود البجع الأسود بشكل مطلق؟
طبقاً لقواعد نظرية الاحتمالات، لو افترضنا أن إحتمال وجود بجعة بيضاء (كلها أو معظمها، إذ أن رقاب بعض أنواع البجع قد لا تكون بيضاء) هو x، يكون احتمال وجود بجعة غير بيضاء هو y = 1 – x، ولو افترضنا أننا حصرنا خمسة مشاهدات منفصلة للبجع وكانت جميعها بجعات بيضاء، يكون احتمال أن تكون هذه المشاهدات كلها لبجعات بيضاء هو x • x • x • x • x = x5، وبما أننا لم نجد ولا مشاهدة واحدة لبجعة غير بيضاء في المشاهدات الخمسة، فإن x5 > 1/5، أي أن x > (1/5)1/5، أي أن x > 0.725.
ولو ارتفع عدد المشاهدات إلى n، وفيها جميعاً لم نجد ولا مشاهدة واحدة لبجعة غير بيضاء، فإن x > (1/n)1/n، وبناء عليه فلو صار عدد المشاهدات ألفاً فإن x > 0.993; y = 1 – x ≤ 0.007، ولو صار مليوناً فإن x > 0.999986; y = 1 – x < 0.000014، أي أنه كلما زادت عدد المشاهدات الدالة على نفس النتيجة (بجعة بيضاء) بدون ولا مشاهدة تدل على نتيجة مختلفة (بجعة غير بيضاء) فإن احتمال كون تلك النتيجة حقيقياً يزداد إلى ما يقارب اليقين، واحتمال وجود نتيجة أخرى يتضائل إلى ما يقارب المستحيل.
لا يمكن إنكار هذه الحقيقة الرياضية على الإطلاق، ولكن...
هناك عوامل تحد من قابلية مثل هذه الاستنتاجات للتعميم المطلق، وهذه لا دخل لها مطلقاً بما استعرضناه من إثبات رياضي، وإنما بالمنهج المستخدم في الحصول على تلك المشاهدات. أين حدثت تلك المشاهدات؟ وهل شاهدها فرد واحد أم عدة أفراد؟ وما مدى صحة هذه المشاهدات؟ وخلال أي فترة زمنية حدثت المشاهدات؟ وهل يمكن لأي شخص آخر التأكد من هذه المشاهدات عن طريق إعادة التجربة؟ كل هذه عوامل تؤثر في صحة الاستنتاج القائم على الملاحظة بوجه عام، وإهمال هذه العوامل بتعميم الاستنتاج على كل شيء خطأ فادح يقع فيه الكثيرون. الاستنتاج القائم على الملاحظة هو ما يعرف أيضاً بالمنهج التجريبي أو المنهج العلمي، ويعرف في علم المنطق باسم الاستنتاج الاستقرائي (Inductive reasoning).
الواقع أن هناك بجع أسود يعيش في القارة الأسترالية، ولم تتح الفرصة لسكان العالم القديم أن يروا مثل هذا البجع، حتى اكتشاف القارة الأسترالية في القرن السابع عشر الميلادي. العامل الذي أهمله سكان العالم القديم في استنتاجهم أن البجع الأسود غير موجود هو أن مشاهداتهم تؤهلهم للوصول إلى استنتاج عما يمكن أن يرصدوه في مكان وزمان المشاهدات وبالطريقة التي استخدموها للمشاهدة، ولا ينطبق استنتاجهم على ما يخرج عن نطاق هذه الشروط، والقارة الأسترالية كانت خارج نطاق هذه الشروط، وبالتالي فإن تعميم الاستنتاج بشكل مطلق كان خاطئاً.
والكلام في هذا المقال مرتبط بمقال آخر سابق عن الفرق بين الدليل والبرهان، وبمقال آخر عن الفرق بين العلم والإيمان، وبمقولة رددتها ربما مئات المرات ولا زلت أرددها، وهي أن غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب، أو كما يقولون بالإنجليزية «Absence of evidence is not evidence of absence»، وفي حالتنا هذه فإن غياب الدليل على وجود بجعات غير بيضاء لا يعد برهاناً قاطعاً على عدم وجود مثل هذه البجعات مطلقاً. والتاريخ مليء بالأمثلة الدالة على ذلك، وتاريخ العلم مليء بها لمن يريد البحث والتبحر، وسأذكر هنا نموذجاً شهيراً من تاريخ العلم.
عاش إسحق نيوتن (Isaac Newton) في الفترة من عام ١٦٤٢ ميلادي إلى ١٧٢٦ ميلادي، ونشر كتابه القواعد الرياضية للفلسفة الطبيعية (Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica) عام ١٦٨٧ موضحاً فيه اكتشاف الجاذبية الأرضية والقوانين الرياضية التي تحكمها، كما وضح فيه العلاقات الرياضية التي تحكم الحركة الميكانيكية، فيما لا يزال يعرف حتى الآن بقوانين نيوتن للحركة، وما زالت تستخدم لمعظم الأغراض العملية، ومن المعروف عن نيوتن أيضاً أنه من مؤسسي علم التفاضل والتكامل، وذلك شيء لو تعلمون عظيم، ولكن الفرق بين اكتشافاته في مجال الرياضيات وبينها في مجال الفيزياء أن الأولى تعتمد على المنطق الاستنباطي (Deductions reasoning) والذي تعتمد عليه كل العلوم الرياضية، وهو لا يعرف إلا الصحة أو الخطأ، فإما أن يكون الشيء صحيحاً كلية أو خاطئاً كلية (طبقاً للمنهج التقليدي)، بينما الثانية تعتمد على المنهج العلمي التجريبي، وبالتالي فإنها تحتمل الخطأ والصواب، ولكن الملايين من المشاهدات على مر عدة قرون أكدت صحة قوانين نيوتن، واستمر الحال هكذا حتى مطلع القرن العشرين، حيث ظهرت بعض المشاهدات التي لا تفسرها قوانين نيوتن. هذا يعني أن تعميم صحة قوانين نيوتن بشكل مطلق كان خاطئاً.
ولد ألبرت آينشتاين (Albert Einstein) عام ١٨٧٩، وفي عام ١٩٠٥ نشر النظرية الخاصة للنسبية (Special relativity) والتي فسرت فشل قوانين نيوتن في بعض التجارب، ووضحت أن قوانين نيوتن صحيحة في حدود معينة، وفي عام ١٩١٥ نشر النظرية العامة للنسبية (General relativity)، والتي تعد من أعمدة الفيزياء الحديثة، وعلى أساسها بنيت المفاعلات النووية والقنبلة النووية التي غيرت مجرى التاريخ وأنهت الحرب العالمية الثانية.
ولكن بعض النظريات والمشاهدات الأخرى التي نشرها علماء آخرون لم تتفق مع النظرية النسبية، مثل ما نشره العلماء ماكس بلانك (Max Planck) وفيرنر هايزنبرج (Werner Heisenberg) ونيلز بور (Niels Bohr) وفولفجانج باولي (Wolfgang Pauli)، وظهر نوع آخر من القوانين الفيزيائية ينطبق على الجسيمات الذرية المكونة للذرة، وأطلق عليه اسم ميكانيكا الكم (Quantum mechanics)، ولا يزال العلماء يبحثون عن نظرية تجمع بين النسبية وميكانيكا الكم وتضع حدوداً لكل منهما، فظهرت نظرية الأوتار (String theory) من أجل هذا الغرض، ولكن التأكد منها بشكل عملي مستحيل في الوقت الحالي.
المقصود أن التحقق من أمر ما ممكن عن طريق المنهج التجريبي، ولكن في نطاق شروط التجربة، ولا يمكن تعميم الاستنتاج خارج هذه الشروط، وتكرار نفس النتيجة في التجارب العملية لا يعني مطلقاً أن نفس النتيجة ستتحقق إذا تغيرت شروط التجربة وظروفها، فالمنهج العلمي التجريبي إذاً محدود بشروط ينبغي مراعاتها عند الاستنتاج لنتجنب الوقوع في خطأ التعميم غير القائم على الدليل، والمنهج العلمي التجريبي لا يوفر برهاناً على أي شيء على الإطلاق، وأقصى ما يمكنه هو أن يقربنا لليقين عن طريق الاستدلال، ولا يمكنه البتة الوصول بنا لليقين التام، حتى تحت نفس الشروط والظروف التجريبية، لأننا لا يمكن أن نكون متأكدين مما سيحدث في المستقبل، ولكننا نقبل فرضية أن القوانين الفيزيائية لا تتغير بمرور الزمن.
فهل يستطيع المنهج العلمي التجريبي أن يؤكد أو ينفي وجود خالق؟ بكل تأكيد لا يستطيع، لأن من التعريف الأساسي للخالق في الكثير من الأديان أنه خارج نطاق المادة، وبالتالي لا يمكن رصده بشكل مباشر، وغياب الدليل المباشر على وجوده لا يمكن الاعتداد به كدليل على عدم وجوده، حتى لو كان ليس خارجاً عن نطاق المادة، فلا يمكننا الادعاء بأننا رصدنا كل ما هو موجود في الكون بشكل كامل، والطاقة المظلمة (Dark energy) مثال على ذلك، ولذلك فإن كل من يجزم بعدم وجود خالق يقع في خطأ منطقي وعلمي فادح، وكل من يؤكد وجود براهين علمية على وجود خالق يقع في نفس الخطأ وربما أفدح.
هو اختيار شخصي، عزيزي القارئ، لا يرقى لمرتبة اليقين إلا في ذهن الأفراد، ولا يمكن لعلم أو منطق أن يرجح إحدى الكفتين.
استعقلوا واسترشدوا، أُثِبتم!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق