بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 مايو 2015

الدليل و البرهان

في قاموس «مقاييس اللغة» نجد:

الدال واللام أصلان: أحدهما إبانة الشيء بأمارةٍ تتعلّمها، والآخَر اضطرابٌ في الشيء.
والدليل: الأمارة في الشيء.

ويقابل هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية كلمة «Evidence»، ونجد في قاموس التراث الأمريكي (American Heritage Dictionary):

Evidence: A thing or things helpful in forming a conclusion or judgment.

وفي قاموس «لسان العرب» نجد:

وأَبْرَهَ الرجلُ: غلب الناس وأتى بالعجائب.
والبُرهانُ بيانُ الحجة واتِّضاحُها.
وفي التنزيل العزيز: قل هاتوا برهانكم. الأزهري: النون في البرهان ليست بأصلية عند الليث، وأما قولهم بَرْهَنَ فلانٌ إذا جاءَ بالبرهان فهو مولَّد، والصواب أَن يقال أَبْرَهَ إذا جاء بالبرهان، كما قال ابن الأعرابي، إِن صحَّ عنه، وهو رواية أبي عمرو، ويجوز أَن تكون النون في البرهان نون جَمْعٍ على فُعْلان، ثم جُعِلَت كالنون الأصلية كما جمعوا مَصاداً على مُصْدانٍ ومَصِيراً على مُصْرانٍ، ثم جمعوا مُصْراناً على مَصارِينَ، على توهم أنها أصلية.

ويقابل هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية كلمة «Proof»، ونجد في قاموس التراث الأمريكي:

Proof: The evidence or argument that compels the mind to accept an assertion as true.

وعليه فإن الفارق بين الدليل والبرهان أن الدليل ما هو إلا ”أمارة“ يترجمها مُستَقبِله في عقله كيفما شاء، وقد يقوده إلى استنتاج صحيح إذا فهمه وترجمه بصورة صحيحة، أو إلى استنتاج خاطئ إذا أخطأ الفهم أو الترجمة، فنجد دليلاً على شيء ودليلاً آخر ينفي هذا الشيء، ونجد دليلاً يُفهَم على محمل معين ثم يُعاد فهمه على محمل مختلف في وقت لاحق لمجرد تغير الإطار الذي تُرجِم فيه هذا الدليل أو يُفهَم على محمل مختلف من شخص مختلف، بينما البرهان لا يقبل الشك ولا يقبل التأويل وليس حمّال أوجه، ولكن كم من براهين في تاريخ البشر ثبت لاحقاً أنها لم تكن براهين مطلقاً وإنما كانت أدلة أسيء فهمها.

ولذلك يجب على المفكر الباحث أن يتحرى الدقة في تفسير وفهم كل ما يظنه دليلاً لكي لا يرفعه إلى مرتبة البرهان وهو غير أهل لذلك، فيترتب عليه ما قد يترتب من أفكار وأحداث لا تلبث أن تنهار حينما يهبط البرهان المزعوم إلى مرتبة الدليل. أما المتسرع أو ضعيف العقل فقد يأخذ كل دليل على أنه برهان، و ربما يأخذ الجاهل ما هو ليس بدليل على أنه دليل وقد يرفعه في نظره إلى مرتبة البرهان، وهذا هو الفرق بين المفكر الباحث وبين المتسرع أو الجاهل أو ضعيف العقل.

فكيف يُعرَف الدليل وكيف يُعرَف البرهان؟ الدليل يرجح حدوث المدلول عليه ولا يؤكده، والدليل يُضحَد بدليل آخر، والدليل حمّال أوجه يتغير تفسيره بتغير الإطار الذي يتم فيه التفسير أو يختلف من شخص لآخر، أما البرهان فيؤكد حدوث المُبرَه عليه ويستحيل ضحده أو تغيير تفسيره.

وللإنسان عقل يميز به بين هذا وذاك، والصعوبة في التمييز لا تكمن في الحاجة لمستوى معين من الذكاء، وإنما في الحاجة لعلم كافٍ وحيادية في التفكير واتساع أفق. وبصفة عامة يكاد البرهان ألا يوجد خارج نطاق علوم الرياضيات كالجبر والهندسة والتفاضل والتكامل والمنطق (كتراكيب وليس كاستنتاجات) وغيرها، فمثلاً يستحيل أن يكون حاصل جمع ٦ و ٨ أي شيء إلا ١٤، وإذا قلنا أن س + ص = ٨ وأن ٢س – ص = ١٠ فلا يمكن إلا أن تكون س = ٦ وتكون ص = ٢.

وقد تكون التفرقة بين الدليل والبرهان صعبة في بعض الأحيان، فمثلاً هل يمكن أن نبرهن على أن أي جسم يترك من علٍ سيسقط حتماً ودون أدنى شك على الأرض؟ للوهلة الأولى سيقول القارئ «بكل تأكيد يمكن، فلو فعلت ذلك بنفسك المرة تلو الأخرى سيقع الجسم دائماً على الأرض.» والواقع أن هذا دليل وليس برهاناً. كيف؟! في كل مرة تترك فيها الجسم ليسقط هناك احتمالان: أن يسقط فعلاً (وهو احتمال نجاح التجربة) أو لا يسقط (وهو احتمال فشلها) ولو أجريت التجربة مرة واحدة لما زاد أي من الاحتمالين عن نسبة ٥٠٪، ولكن بتكرار التجربة وحساب عدد حالات النجاح وحالات الفشل يمكن أن نصل إلى تقريب أفضل لقيمة هذين الاحتمالين، فإذا نجحت التجربة مثلاً مئة مرة متتالية، فذلك يعني أن احتمال الفشل حتماً أقل من ١٪، والواقع أن احتمال الفشل في هذه الحالة هو واحد في العشرة آلاف تقريباّ. وهكذا لو كررت التجربة عدداً أكثر من المرات، وفي جميعها نجحت، لكان يصح أن نقول أن احتمال الفشل يكاد يكون صفراّ، ولا يصح أن نقول أنه صفر مطلق، وما يُدري أياً منا أن نفس الشيء سيحدث غداّ؟ أو في الأسبوع المقبل؟ أو السنة المقبلة؟ لا يمكن لأي منا أن يؤكد ما سيحدث في المستقبل بشكل مطلق. و لهذا فإن كل العلوم التجريبية تعتمد على أدلة ولا تعتمد على براهين، اللهم إلا فيما يختص بالمعادلات الرياضية التي قد تستخدم في تلك العلوم.

وإذا كان الأمر كذلك فيما يختص بالمنهج العلمي في العلوم الحديثة، فكم بالحري فيما يختص بأمور الحياة اليومية التي تخلو عادة من التدقيق والفحص. إن العقل البشري يمكن خداعه بسهولة، ومن الثابت في علم النفس أن ترجمة المستحثات المختلفة سواء عن طريق السمع أو النظر أو اللمس يتأثر بشكل كبير جداّ بالحالة الذهنية للمُستَقبِل، ولهذا يمكن لعدة أشخاص يرون ويسمعون نفس الأحداث أن يفهموها بطرق مختلفة تماماً عن بعضهم البعض، ولهذا أيضاً تعتبر شهادة شهود العيان من أضعف الأدلة في التحقيقات الجنائية.

وأعني بما قلت سابقاً أن ما تراه وتسمعه في حياتك اليومية لا يعد برهاناً على شيء مطلقاً، وإنما هو في أحسن الحالات دليل يقبل الشك، حتى لو كان الشك ضئيلاّ، فلا تتمسك بوجهة نظر معينة تمسكاً مطلقاً بناء على أدلة، ودَعْ مجالاً للشك، ولا أعني بقولي هذا أن تهمل احتمالاً كبيراً لصحة شيء ما، لإنه لو كان الحال كذلك لما كان للعقل فائدة، بل أعني أن قناعتك بشيء ما لا يجب أبداً أن تجعلك منغلقاً رافضاً لاعتبار أي أفكار أو وجهات نظر مخالفة. فليكن العقل دائماً هو الحكم في قناعاتك، وليست القناعات السابقة أو السائدة. افتح عقلك لكل الأفكار والآراء، حتى ما قد يبدو لك منها غريباً أو مرفوضاً للوهلة الأولى، ولا تقتنع إلا بما تراه مرجحاً، وتذكر أن حياتنا اليومية تكاد تخلو من البراهين. لنفسي أقول الجمل السابقة، ولمن يراها ذات فائدة.

هناك تعليق واحد :