هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات تختص بنقاش موضوعات إسلامية بشكل أو بآخر. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.
لأن الإيمان بالله غير متفق عليه بين جميع البشر
إذا كنت أنا أؤمن بالله ووجوده وتعاليمه للبشر، فهناك ما لا يقل عن ثلث سكان الكرة الأرضية ممن لا يؤمنون بوجود الله من الأساس. احتكامي إلى ما أعتقد أنه شرع الله يحكم يلزم هؤلاء بالأحكام التي أعتقد أنها من عند الله رغماً عن قناعاتهم الشخصية بعدم وجود إله أصلاً. يقول قائل أن هذا المنطق ينطبق على بلاد بها الكثير من الأديان مثل كندا أو أمريكا، ولا ينطبق على بلاد يؤمن كل أهلها تقريباً بوجود الله الواحد. وهذا صحيح ومنطقي و لكنه ليس السبب الوحيد الذي أستند عليه في رفضي لتحكيم الدين.
لأن الدين يختلف من شخص لآخر
حتى في البلاد الذي يؤمن كل أهلها بوجود الله ويعبدونه، تجد أن المواطنين غالباً ما لا يكونون على نفس الدين كلهم. وبالرغم من اتفاق معظم الأديان على مبادئ عامة كرفض الزنا والقتل والسرقة مثلاً، إلا أن كل الأديان تقريباً تختلف عن بعضها البعض في عدد من المبادئ الأخرى اختلافاً جذرياً، وما يراه أتباع دين أنه كلام الله وشرعه يراه أتباع دين آخر على أنه ’كلام فارغ‘. أستخدم كلمة ’رفض‘ وليس كلمة ’تحريم‘ لأن التحريم كمصطلح لا يتفق مع جميع الأديان التي يعرفها البشر. فأي الأديان نحكم بين المواطنين؟ هل نحكم دين الأغلبية؟ وهل إذا ما حكمنا دين الأغلبية نظلم الأقلية؟ بكل تأكيد نظلمهم، لأن نقاط الاختلاف سيكون مرجعها إلى دين الأغلبية وسيُحْرَم الأقليات من الاحتكام إلى دينهم.
ليس هذا وفقط، بل يجب الوضع في الاعتبار أن دين الأغلبية لو كان يُحَرِّم الخروج منه إلى دين آخر ويعاقب الخارج منه عقاباً شديداً يصل إلى القتل، فإن هذا يتنافى مع حرية الإنسان في اختيار دينه. بل وإن ذلك أيضاً يتعارض مع العقل والمنطق. إذا كنت تؤمن بوجود إله عالم كل شيء وقادر على كل شيء، فكيف تعاقب أنت الإنسان المحدود من يخرج عن الدين ولا يقدر الإله على ذلك؟ ولماذا يوكلك الإله القادر على كل شيء في عقاب البشر وهو قادر على عقابهم؟ وكيف يعاقب الله البشر على اختيار دين معين (حتى وإن كان هذا الدين لا يرضي الله) بالقتل فيكون مصيرهم العذاب الأبدي في النار (إن كنت تؤمن بذلك) بدلاً من إعطاء الفرصة للتوبة؟
حتى وإن كان دين الأغلبية لا يعاقب من يخرج منه، فلماذا يخضع الأقليات لأحكام دين الأغلبية؟ أليس هذا نوع من أنواع مصادرة الحريات الشخصية؟ المشكلة ليست في الأحكام ذاتها، فقد تكون الأحكام رائعة وموافقة لرأي كل المواطنين، ولكن إذا تغيرت الظروف، فلن تتغير الأحكام طبقاً لتغير الظروف لأنها بمنتهى البساطة ’كلام الله‘. أي أن الرجوع إلى أحكام الدين في القانون يجعل القانون جامداً لا يمكن تغييره، والقول بأن أحكام دين ما تناسب كل مكان وكل زمان هو محض افتراض، إذ أن القائل بذلك لا يعلم الغيب، ويعتمد في مقولته هذه على قناعاته الشخصية وليس على دليل منطقي.
لأن تفسير الدين يختلف من طائفة لأخرى
في جميع الأديان تقريباً نجد تفاسير ورؤى مختلفة للدين الواحد، منها ما ينتج عنه انشقاق واضح في الدين إلى فرعين أو أكثر ومنها ما يتخذ أقصى اليمين أو أقصى اليسار في تفسير الدين.
على سبيل المثال وليس الحصر، انشقت الكنيسة الأولى إلى الأرثوذكس والكاثوليك، ثم انشق البروتستانت عن الكاثوليك، وظهرت عدة طوائف أخرى من البروتستانتية. وانشق الإسلام في صدره إلى الشيعة والسنة، ثم انشق عن الشيعة البهائيون وانشق عن السنة الأحمديون والقرآنيون. وفي تفسير الدين من قِبَل نفس الطائفة تجد من هو في منتهى التشدد ويلتزم بالحرف من دون النظر إلى ’روح النص‘ وتجد من يغالي في التركيز على ’روح النص‘ حتى يلوي أعناق النصوص لتجاري فكرته.
فمن من هؤلاء نحكم؟ عند الحديث عن طوائف الدين الواحد قد يقول قائل إننا سوف نحتكم للطائفة التي تشكل الأغلبية من الشعب. فإن احتكمنا إلى هذه الطائفة، فأي من التفسيرات المختلفة للدين سنحكم؟ هل نحكم أقصى اليمين أم أقصى اليسار أم الوسط؟ ومن يحكم على الوسط أنه وسط؟ ثم ما هو رأي اليمينيين في اليساريين والعكس؟ هل يرى اليمينيون أن اليساريين عصاة ويرى اليساريون أن اليمينيين متخلفون؟ ومن منهم يملك الحقيقة في تفسير النصوص؟ وهل إن اتفقنا على أهل ’الوسط‘ سيرضي تفسيرهم للدين جميع الأطراف؟
ثم مع وضع كل ذلك في الاعتبار، أين هو ’كلام الله‘ فعلياً في كل هذه المعمعة؟ هل هو مع هؤلاء أم أولئك؟ إذاً فمن شبه المستحيل أن يتفق مواطنو أمة واحدة على تفسير واحد للدين على أنه إرادة الله وكلامه ووصاياه. ومن ثم، يصبح تطبيق رؤية معينة للدين دون غيرها فيه ظلم حتى لأتباع الدين الواحد.
لأن هناك من يستغل الدين لتحقيق مآرب شخصية
والأمثلة كثيرة على مر التاريخ ولا داعي لذكرها في هذا المقال. من يستغل الدين لتحقيق المآرب الشخصية غالباً ما يطمح في سلطان أو جاه أو مال أو أكثر من واحدة منها. نعلم جميعاً كيف أن رجال الدين مكرمون عند كل البشر وفي كل الأديان وكيف أن كلمتهم مطاعة باعتبارهم أقرب إلى الله وأعلم بكلام الله ووصاياه، وكيف أن تعامل الناس معهم من هذا المنطق يسهل لمن في نفسه مرض أن يستغل ذلك للتربح من وراء الدين.
ونعلم أن الكنيسة في العصور الوسطى سيطرت على السياسة والحكم من هذا المنطلق. في المسيحية، الكاهن ليس متكلماً نيابة عن الله، ولكنه الأعلم من عامة الناس بتعاليم الله وله عندهم مكانة خاصة. وعندما تزاوجت السياسة (متمثلة في الملك أو القيصر) مع الدين (متمثلاً في الكنيسة الكاثوليكية) نتجت الدولة الثيئوقراطية التي يحكم فيها رجال الدين ويتحكمون بصفتهم العالمين بشرع الله ووصاياه. وعندما حدث نفس الشيء ذاته في إيران وتزاوجت السلطة السياسية (الرئيس والحكومة) مع السلطة الدينية (آيات الله) نتجت أيضاً دولة ثيئوقراطية يحكم فيها آية الله بشرع الله كما يراه هو وينفذ له الحاكم ما يراه صواباً من واقع علمه الديني. وكيف لا يفعل ذلك وآية الله يوجهه إلى شرع الله؟
ويحقق تزاوج الدين بالسلطة (أي السياسة في العصر الحديث) منافع لرجل الدين والحاكم (أو السياسي) على حد سواء. عندما يكون السياسي ’مباركاً‘ ومؤيداً من رجل الدين، فإن العامة سيطيعونه لأنه ينفذ ’مشيئة الله‘ أو ’شرع الله‘. وعندما يحاول البعض من العامة التمرد على الفكر الديكتاتوري الديني الذي يصدره رجل الدين، فإن الحاكم يكون اليد الضاربة التي تبطش بالمعارضين، إذ أن رجل الدين لا يمتلك مثل هذه القوة. فالدين يخضع العامة طوعاً وطمعاً في نعيم الحياة الآخرة أو ترهيباً من العقاب، والسلطة تخضع العامة قهراً إن لم يفلح الإقناع بالدين، وفي جميع الأحوال فإن النتيجة هي إخضاع العامة (الشعب) للسلطة المزدوجة المكونة من الدين والسياسة.
لأن الدين (أي دين) لا يحتوي على أحكام لكل تفاصيل الحياة
وذلك لأن الحياة تتطور بمرور الزمن، وبالنسبة للأديان القديمة تحديداً، فإن ما قيل من قرون قد لا يصلح اليوم، أو أنه قد لا يتضمن نصوصاً لما نحياه اليوم في ظل التكنولوجيا والعلم المتاحين في القرن الحادي والعشرين. فما حكم الأديان القديمة مثلاً في استخدام السيارة أو الحاسوب (أي الكمبيوتر بلغة الفرنجة)؟ قد تستخدم هذه الماكينات أو الأجهزة في الخير أو الشر، ويصبح الحكم على الخطأ والصواب في هذه الحالة مرجعه إلى المبادئ الأخلاقية الأساسية التي يكاد يتفق عليها كل البشر. وعندما أضرب مثلاً بالسيارة والحاسوب، فينبغي أن يفهم أن هذا مثل وليس حصراً لكل ما لم تتضمنه تعاليم الأديان القديمة، وفي رأيي أن القرن الحادي و العشرين يحتوي على الكثير و الكثير من هذه الأشياء.
فإن كان الدين ليس به أحكام ثابتة أو واضحة لبعض الأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية في القرن الحادي والعشرين، وفي رأيي أن عدد هذه الأشياء سيزيد حتماً في المستقبل، فكيف نُحَكِّم الدين فيما ليس فيه؟ وأي الآراء سنأخذ عندما نحتكم لأهل العلم في الدين؟ ففي أغلب الظن لن يجتمع الرأي في كل مكان في العالم على نقطة واحدة. وإن كان المرجع هو ’المبادئ الأساسية‘، فهو مرجع أخلاقي بالدرجة الأولى وليس مرجعاً دينياً، لأن البشر كما ذكرت سابقاً يتفقون أغلبهم على مبادئ أخلاقية واحدة.
لأن ربط الدين بمطبقي القانون فيه ظلم للدين
جميع البشر الذين يتبعون أي دين على وجه الأرض يؤمنون بأن الدين الذي يتبعونه دين نقي خالي من الشوائب، وإلا لما اتبعوه. أي أنه لو كان هناك عيب في التطبيق فهو عيب في البشر وليس عيباً في الدين. وهذا مفهوم ومقبول، كما يفهم أيضاً عندما لا يقبل أتباع دين تطبيقات أتباع دين آخر لأنهم يرون الدين الآخر منتقصاً مشوباً.
وعندما نربط الدين وتعاليمه بالسياسة وتطبيقات الحكم، فإن ذلك يتطور في عقول العامة إلى إرتباط بين الدين في حد ذاته وبين التطبيق والفهم البشري، وعندما يخطئ المطابق خطأ جسيماً فإن ذلك الخطأ ينسب للدين وليس للإنسان المخطئ، ويسيء للدين في عيون من لا يتبعوه وربما أيضاً في عيون بعض من يتبعونه.
أسوق مثالين على ذلك للتوضيح (وليس للحصر). في العصور الوسطى أخطأ رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية في تطبيقهم لتعاليم الدين المسيحي، فأصدروا صكوك الغفران وأقاموا محاكم التفتيش وعضدوا الحروب الصليبية، وما زال غير المسيحيين إلى يومنا هذا وبعد مرور عدة قرون على ما حدث يلصقون تلك الأفعال بالدين المسيحي وليس بمن فهموه وطبقوه بصورة خاطئة. وكما حدث هذا في المسيحية حدث أيضاً في الإسلام. هناك من فهم أن الإسلام يدعو للجهاد المتمثل في قتل الأبرياء العزل، وخطط لذلك ونفذ مخططاته، فألصق من لا يؤمنون بالإسلام التهمة بالإسلام بالرغم من تبرؤ الكثيرين من المسلمين منها.
فالحكم وتنفيذ ’القانون‘ أو ’الشرع‘ باسم الدين يسيء إلى الدين إن شَطَّ الحاكمون أو المنفذون ففرطوا أو أفرطوا.
لأني أؤمن أن من وضع ’القانون‘ سيحاسب من خالفه
عندما تضع الدولة (متمثلة في مؤسساتها) القانون فإنها تحاسب من يخالف القانون. وأرى أنه عندما يضع الله القانون (أي الشرع و الوصايا) فإن الله هو من يحاسب على مخالفته. هناك بعض التشريعات أو الوصايا في الكثير من الأديان قد لا يكون لها تفسير منطقي في عصرنا هذا، حتى وإن كان لها تفسير منطقي في عصور سابقة. وهناك بعض التشريعات أو الوصايا محل اختلاف بين أتباع الدين الواحد وأتباع الأديان المختلفة. وبالتالي، فإن المنطق يقول أن من وضع هذه التشريعات أو الوصايا هو الوحيد الأعلم بالمقصد منها وهو الوحيد المستحق والقادر على العقاب على مخالفتها أو الثواب على طاعتها.
من يؤمن بوجود إله كامل العلم وكامل القدرة، لا يمكن منطقياً في ظني أن يؤمن أن هذا الإله يوكل له تنفيذ أحكامه...! إذا كان الإله كامل القدرة، فلم لا ينفذ الإله الأحكام بنفسه وبذلك يكون المخطئ عبرة حقيقية لمن يعتبر؟ يقول قائل أن الله يريد أن ’يرانا‘ ندافع عن الدين وعن وصايا الله. فإذا كنت تؤمن بأن الإله كامل المعرفة، أفلا يعلم الله ما في قلب المؤمن من إيمان راسخ؟ ماذا يفيد الله أن يرى مؤمناً يعاقب إنساناً أخطأ؟ وهل يأمر الإله إنسان أن يعاقب إنساناً فيقتله؟ لا أقدر أن أقتنع أن الإله يأمر الإنسان بالقتل ليمتحن إيمانه وهو الأعلم بما في القلوب. فإن قُتِلَ مذنب خطأ من دون ذنب ارتكبه، فهل كانت إرادة الإله أن يقتل الإنسان أخاه ظلماً؟ وهل يمتحن الإله الإنسان بأن يجعله يقتل أخاه ظلماً؟ لا أظن أن إلهاً كامل العلم والمعرفة والحكمة يفعل مثل ذلك.
أما إن كانت الأحكام صادرة عن بشر، فيمكن أن أقبل فيها الخطأ وضيق الأفق وقلة المعرفة والحكمة.
لأن عدم الاحتكام للدين في الدستور والتشريع لا يعني إقصاء الدين
من يصوغ الدستور ومن يضع القوانين؟ أليسوا مواطني الدولة؟ فهل تتوقع من مواطني دولة يدين أغلبها بنفس الدين أن يكتبوا في الدستور ما يخالف الدين صراحة أو يشرعوا قانوناً يخالف حكماً ثابتاً من أحكام الدين؟ لا أظن...!
وإن إختلف مواطنو الدولة الواحدة في الدين و كانت نسبة أتباع دين منهم تساوي تقريباً نسبة أتباع الآخر، فلا أظن أبداً أن نقاط الإختلاف بين الدينين ستكون أكثر من نقاط الاتفاق. لا أعرف ديناً يحض على قتل الأبرياء ولا على السرقة ولا الزنا ولا التكاسل. لا أعرف ديناً لا يحض على الصدق والأمانة والإخلاص والعدل. وعندي ظن كبير أن نقاط الاتفاق تزيد على نقاط الإختلاف بما يسمح لأتباع الدينين أن يرجعوا إلى ما يتفقون فيه إن كانوا يعقلون.
وعدم الاحتكام للدين في الدستور والتشريع لا يعني تجريم الدين أو تحريمه. مبادئ حقوق الإنسان تكفل حرية العقيدة وحرية العبادة. فإن لم نحتكم للدين في البرلمان والمحاكم، فذلك لا يمنعنا أن نعبد الله ونعلم أولادنا الدين ونربيهم على التدين. ففي النهاية تنشئة الأطفال مرجعها إلى الأسرة بشكل أساسي وليس المدرسة أو الإعلام أو حتى دور العبادة. هذه الأخريات تلعب دوراً مساعداً في تنشئة الأطفال، ولكنها ليست الأساس، وكم نرى من أطفال يبعث بهم أهلوهم إلى مدارس دينية ودور عبادة، ولكن القدوة والتعليم مفقود في المنزل، فلا يستفيد هؤلاء الأطفال شيئاً من ذهابهم لهذه أو تلك.
كما أن الأمثلة كثيرة لأسر من دين ما يعيشون في دول يدين معظم مواطنوها بدين آخر، وعلى الرغم من ذلك تنشئ الأسرة الأطفال على دينها، والأمثلة كثيرة للأسر المسلمة أو الهندوسية في الدول الغربية التي يدين معظم سكانها بالمسيحية، وكذلك الأسر المسيحية في دول الشرق الأوسط التي يدين معظم أهلها بالإسلام. وربما كانت الدول الغربية مثالاً أقوى، حيث أن العديد منها دولاً علمانية بالدرجة الأولى، ولم يتم تحريم الدين فيها على الإطلاق.
نسب المصنفات
يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق