كل شخص يرى الأشياء و الأحداث و الحياة بوجه عام بشكل مختلف عن الآخر، و لا أعني بذلك وجهات النظر المختلفة حول أمر ما، و إنما استقبال المرء لما حوله من مؤثرات خارجية و ترجمتها إلى معانٍ في عقله. كمثال على ذلك، إذا استيقظ ثلاثة أشخاص من النوم لسماع صوت مُدَوٍّ، فقد يترجمه أحدهم على أنه صوت ارتطام شيء ضخم بالأرض، و يترجمه آخر على أنه صوت طلق ناري، و يترجمه الثالث على أنه صوت الرعد. نفس المؤثر الخارجي فُهِم من أشخاص مختلفين بطرق مختلفة. و في ذهن كل منهم، نتج هذا الصوت عن وقوع الحدث الذي تخيلوه سببًا الصوت. فهل فهمه واحد منهم فقط على حقيقته؟ أم أكثر من واحد؟ أم أنهم لم يفهموه على حقيقته على الإطلاق؟
هل يمكن أن يكون الثلاثة مخطئين؟ نعم، فمن الممكن أن يكون هذا الصوت مُسجّلاً، و في هذه الحالة فجميعهم مخطئون، لأن الحدث الذي سبب الصوت في الأصل لم يحدث وقتما سمعوه، و لأن الصوت يمكن تخليقه بالحاسب الآلي دون أن يحدث أي من هذه الأشياء. هل يمكن أن يكون الثلاثة على حق؟ نعم، فمن الممكن أن تحدث كل هذه الأشياء معاً في أوقات متقاربة جدًا، فيكون الصوت الصادرحقيقي جميعًا كأنه صوت واحد. صحيح أن هذا احتمال ضئيل، لكنه ليس منعدمًا، فماذا يمنع أن طلقًا ناريًا قد أُطلق أثناء عاصفة رعدية دفعت رياحها بجسم ضخم فسقط مرتطمًا بالأرض. إذًا يمكن ألا يكون أحد منهم على حق مطلقاً، و يمكن أن يكون واحد أو أكثر أو كلهم على حق. فما هي الحقيقة؟
يجب في هذا المجال التفرقة بين مفهومين مختلفين للحقيقة. هناك ما يظنه الإنسان حقيقة، و هناك الحقيقة المطلقة الموجودة و الحادثة بغض النظر عن وجود من يفهمها أو يدركها. قد يفهم البشر الحقيقة المطلقة بطرق مختلفة كما في المثال السابق، و قد لا يدركونها على الإطلاق، و قد يدركون جزءًا منها فقط دون مجملها. و بالتالي، فليس كل ما اتفق عليه البشر هو الحقيقة بالضرورة، فالحواس البشرية محدودة القدرة، و العقل البشري يمكن خداعه بسهولة، و قد أثبتت التجارب العلمية هذا بما لا يدع مجالاً للشك، و على سبيل المثال، كان البشر في فترة من تاريخهم مجمعين على أن الأرض هي مركز الكون و أن الشمس تدور حولها، و لم تكن أبدًا حقيقتهم الحقيقة المطلقة، و اعتقد الفيلسوف و عالم الرياضيات رينيه ديكارت (René Descartes) أن الكون كله مكون من نفس المادة، و لكنها تتباين في أشكال ظهورها فنراها مرة سائلة و مرة صلبة، و نراها أحيانًا حية و أحيانًا جمادًا ميتًا لا حياة فيه. كانت نظرية ديكارت تفسيرًا مقبولاً من الناحية المنطقية للتعبير عما يتكون منه الكون، و ثبت بعد ذلك أنها ليست صحيحة. و ليس أدل على هذه النقطة من صور الخداع البصري المنتشرة على الإنترنت، و التي قد تعطي انطباعين أو أكثر للناظر إليها. نفس الصورة (أي نفس الحقيقة) يراها العقل البشري بطرق مختلفة، و لا يمكن أن يراها بأكثر من طريقة واحدة فقط في أي وقت من الأوقات.
ربما سمع القارئ بالقصة الهندية القديمة التي تحكي أن ملكًا أحضر ستة رجال عميان و طلب منهم أن يتحسسوا الفيل و يخبروه برأيهم في شكل الفيل، شريطة ألا يتحسسوا إلا جزءًا واحدًا فقط من جسم الفيل، فتحسس واحد ساق الفيل و قال إنه يشبه العامود، و تحسس الثاني ذيله و قال إنه يشبه الحبل، و تحسس الثالث خرطومه و قال إنه يشبه فرع شجرة، و تحسس الرابع أذنه و قال إنه يشبه مروحة اليد، و تحسس الخامس بطنه و قال إنه يشبه الحائط، و تحسس الآخير نابه و قال إنه يشبه قضيبًا ناعمًا، و بالطبع كانوا جميعًا على حق فيما أدركوه أو تخيلوه، و كانوا جميعًا مخطئين في شكل الفيل الحقيقي، و هذا مثال تقليدي قديم على أن لإدراك الحقيقة أوجه عديدة.
فما هي إذًا الحقيقة المطلقة؟ لا يمكن أن يدعي أي إنسان أنه يعرف حقيقة مطلقة خارج نطاق العلوم الرياضية. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حاصل جمع الواحدين أي شيء بخلاف اثنين. الأفكار الرياضية المجردة عن الماديات بشكل مطلق تعبر عن حقائق مطلقة، و يعتبرها بعض الفلاسفة موجودة و كائنة منذ الأزل، و ستظل كذلك بعد فناء الكون كله، بل يعتبر بعضهم أن الرياضيات هي ”لغة الله“ في خلقه للكون. أما كل ما يتعلق بما هو مادي بأي شكل من الأشكال فلا يمكن اعتباره حقيقة مطلقة، حتى تلك الأفكار التي لا تعبر عن ماديات و إنما تتعلق بماديات، كالحرية و الحب و الكرامة و غيرها، فتلك جميعاً تتعلق بوجود كائن مادي هو الإنسان، و لا يوجد مفهوم واحد يعبر عن الحقيقة المطلقة لمعنى أي من هذه المفاهيم.
فهل يمكن أن تكون هناك أكثر من حقيقة مطلقة واحدة؟ و أذكّر القارئ أنني أتحدث عن الحقيقة المطلقة و ليس الإدراك البشري للحقيقة. لا يمكن أن يكون هناك إلا حقيقة مطلقة واحدة فقط، لأن ما هو ليس حقيقيًا بشكل مطلق هو بالضرورة غير حقيقي، فإذا وُجِدت أكثر من حقيقة مطلقة، فإن كلًّا منها تؤكد بالضرورة أن ”الحقائق“ الأخرى ليست حقيقية، و من ثم لا يستقيم وجود أكثر من حقيقة مطلقة واحدة و كل ما عداها غير حقيقي.
و هنا يطرح سؤال نفسه: هل من الممكن أن يعرف الإنسان الحقيقة المطلقة خارج نطاق التجريد الكلي عن الماديات الموجود في العلوم الرياضية؟ بالطبع يمكن أن يحدث هذا، و لكن هل يستطيع الإنسان أن يكون متأكدًا بشكل قاطع من أنه يعرف الحقيقة المطلقة في تلك الحالات؟ أزعم أنه لا يمكن أن يؤكد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، فقدرات الحواس البشرية — كما ذكرت — محدودة و العقل البشري يمكن خداعه، و اتفاق البشر على حقيقة ما لا يعني بالضرورة أنها الحقيقة المطلقة، و حتى عندما يستخدم الإنسان آلات و أجهزة تزيد من قدراته البشرية، كالميكروسكوب الذي يمكّنه من رؤية الأشياء متناهية الصغر التي لا تراها العين المجردة، و كالأجهزة المختلفة التي تلتقط الموجات الكهرومغناطيسية الخارجة عن نطاق الضوء المرئي، فإن الإنسان في النهاية لا بد أن يستخدم حواسه المحدودة و عقله القابل للخداع في إدراك ما تظهره له هذه الآلات و الأجهزة، و هذا بالتبعية يعني أن الوصول للحقيقة المطلقة — برغم كونه ممكنًا — لا يمكن التأكد منه بما لا يدع مجالاً للشك. و هكذا بدأ رينيه ديكارت تفكيره الفلسفي، فنفى صفة الحقيقة عن كل ما يدركه الإنسان، و بدأ من نقطة أولية لا بد أن تكون حقيقية، و هي الجملة الشهيرة «أنا أفكر، إذًا أنا موجود» (Cogito ergo sum) و استطرد في تفكيره الفلسفي من هذه النقطة وحدها، و يُعتبر ديكارت مؤسس منهج الشك في الفلسفة.
و هنا يطرح سؤال آخر نفسه: إذا كان الإنسان لا يقدر أن يكون متأكدًا من إدراكه للحقيقة المطلقة، فكيف يستقيم ذلك مع العلم الحديث الذي أنتج آلاف التطبيقات التكنولوجية معتمدًا على هذا الإدراك البشري نفسه للكون عن طريق العلم؟ ألا يعني هذا أن الحقيقة التي عرفها الإنسان بالعلم حقيقة مطلقة؟ أقول لا. عندما اكتشف إسحق نيوتن (Isaac Newton) قوانين الجاذبية، أثبتت كل التجارب و الملاحظات العملية صحة تلك القوانين، و استُخدمت هذه القوانين بنجاح باهر في حساب حركة الأجرام السماوية، و لكن في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين لم تعد هذه القوانين كافية لتفسير بعض الملاحظات الخاصة بالضوء، و كان العديد من العلماء يبحثون وقتها عن عوامل خفية قد تكون سببًا في قصور قوانين نيوتن، إلى أن جاء العالم العبقري ألبرت آينشتاين (Albert Einstein) بقوانين النظرية النسبية (Theory of Relativity) التي فسرت كل الملاحظات التي حيرت العلماء، ثم ثبت صحتها بالتجارب. فهل كانت قوانين نيوتن غير حقيقية بالرغم من نجاحها على مدى عدة قرون م الزمان؟ الواقع أن قوانين النظرية النسبية تُختَزل إلى قوانين نيوتن عندما تكون سرعة حركة الأجسام أقل كثيرًا من سرعة الضوء، و هذا يعني أن قوانين نيوتن لم تكن كل الحقيقة أو الحقيقة المطلقة، بل جزءًا من الحقيقة و حالة خاصة منها. و حتى قوانين النظرية النسبية لم تكن كافية لتفسير حركة الجسيمات المكونة للذرة، و لهذا نشأت نظرية ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics Theory) بكل قوانينها. فهل هذا يعني أن النظرية النسبية غير حقيقية؟ أم يعني أن قوانينها لا تنطبق على حركة الجسيمات المكونة للذرة؟ و إن كانت لا تنطبق هذه القوانين عليها، فلماذا؟ أليس أجسامًا مادية كباقي الأجسام؟ أم أن النظرية النسبية بشكل أو بآخر حالة خاصة من نظرية ميكانيكا الكَمّ؟ أم أن نظرية ميكانيكا الكَمّ هي الحالة الخاصة؟ و كيف نفسر ذلك منطقيًا و حسابيًا؟ أم أن هناك جزءًا آخر من الحقيقة لا نعرفه بعد؟ كل هذه أسئلة تؤدي إلى نفس الاستنتاج، و هو أننا لا يمكن أن نكون متأكدين بشكل قاطع من أننا نعرف الحقيقة المطلقة خارج نطاق علم الرياضيات.
و الأدهى من ذلك أن نظرية ميكانيكا الكَمّ تحتوي على مبدأ الشك (Uncertainty principle) الذي اقترحه أولًا العالم ڤيرنر هايزنبرج (Werner Heisenberg) و الذي يقول بأن خواص الجسيمات المكونة للذرة لا يمكن أبدًا معرفة قيمها كلها بدقة، فكلما ازدادت دقة القياس في أحد هذه الخواص كلما قلت هذه الدقة في خاصية أخرى، و لهذا فإننا لن نعرف أبدًا القيم الدقيقة لكل هذه الخواص، و إنما يمكننا تحديد نطاق معين تقع فيه قيمة هذه الخواص باحتمال معين، أي أن العلم ذاته يؤكد أننا لن نستطيع أبدًا معرفة الحقيقة المطلقة. و من أطرف ما قال هايزنبرج عن قصة الفيل و العميان المذكورة عاليًا إن هناك ستة فيلة عميان أرادوا أن يتحسسوا إنسانًا ليعرفوا شكله، فتحسس أولهم الإنسان بقدمه و قال إن الإنسان مفلطح كالأرض، ثم تحسس الخمسة الباقون الإنسان بعده و اتفقوا جميعًا على أنه مفلطح كالأرض! و الطرفة هنا في أن الأول داس على الإنسان ففلطحه و ساواه بالأرض، و من أقاويل هايزنبرج «ينبغي أن نتذكر أن ما نلاحظه ليست الطبيعة نفسها و إنما الطبيعة بعد تعرضها لوسيلتنا في التقصي».
إذًا فهناك حقيقة مطلقة واحدة و ليس سواها، و الوصول إليها و معرفتها ممكنان، و لكن التأكد من معرفتها بشكل قاطع لا يمكن أن يحدث إلا في حالات التجريد الكلي عن المادة كما في علم الرياضيات، و في غير ذلك من الحالات قد يدرك العقل البشري المحدود عن طريق الحواس البشرية المحدودة صورة للحقيقة قد لا تعبر بشكل صادق عن الحقيقة، و يختلف البشر في إدراكهم للحقيقة، و تختلف الصور الذهنية للحقيقة في عقولهم، و قد يدركون جزءًا من الحقيقة أو حالة خاصة منها و لا يلمّون بكل الحقيقة، بل إن العلم يؤكد أننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف الحقيقة المطلقة.
فتأنى، أخي الإنسان، قبل أن تزعم أنك متأكد من معرفتك للحقيقة، و اجعل دائمًا مجالًا للشك، فهذا أقرب للعقل و المنطق.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق