بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 27 أغسطس 2016

أسس الرياضيات

هذه التدوينة هي من سلسلة تدور حول الرياضيات. هذا الرابط يحتوي على قائمة بالتدوينات المتعلقة بهذا الموضوع.

الرياضيات كعلم واسع ومعقد (كما يبدو للبعض) مبني في مجمله على مجموعة بسيطة جداً من المبادئ والأفكار:

  • العدّ (counting): وهو إدراك أن الشيء الواحد الصحيح يعبر في وجوده عن خاصية مشتركة بين كل الأشياء، وهي خاصية أنه موجود وواحد وصحيح! وكل شيء واحد صحيح من نفس النوع له هذه الخاصية، فهو موجود وواحد وصحيح. ووجود أكثر من واحد من نفس نوع هذا الشيء الواحد الصحيح هو ما نشأ عنه مفهوم العد للتعبير عن كمية هذه الأشياء الواحدة الصحيحة، فبدلاً من أن نقول هناك شجرة واحدة صحيحة وشجرة واحدة صحيحة وشجرة واحدة صحيحة نقول أن هناك 3 شجرات! منذ عصور ما قبل التاريخ المدون والإنسان يستخدم العد (كما رأينا فيما وصلنا من آثار، وقد ناقشت هذا في مقال سابق)، غير أن وسيلة العد البدائية كانت كما ذكرت سابقاً: واحد وواحد وواحد بدلاً من ثلاثة! وتطورت نظم العد والأرقام مع الزمن لتسهيل العد وتسهيل التعامل مع الأعداد. والعد مفهوم مجرد عن الماديات، ويمكن تطبيقه على أي شيء لأنه لا يتعلق بأي خصائص أخرى غير كون الشيء موجوداً وواحداً وصحيحاً، فيمكن أن نعد الثمار أو البذور أو قطرات المطر أو حبات الرمال أو عدد المشاركين في حدث ما أو حتى عدد الكلمات التي قالها شخص ما أو عدد الأفكار الجديدة الناتجة عن مجموعة بحثية، فالعد ينطبق على المادي والمجرد على حد سواء.
  • المسلّمات (axioms): وهي حقائق مؤكدة بدون إثبات لأن نفيها أو نقيضها مستحيل، وعلى عكس الشائع فإن المسلمات عددها محدود جداً لدرجة أن هناك صفحة على موسوعة الإنترنت ويكيبيديا تسرد حصرياً كل المسلمات الموجودة في علم الرياضيات. الاستخدام الشائع لكلمة ’مسلمات‘ يعنى به في الكثير من الأحيان ’البديهيات‘، وهو مفهوم مختلف عن المسلمات، فالبديهيات هي كل ما تدركه بالبداهة لأنك ’تظن‘ أنه صحيح أو لأنه يتكرر بصورة دائما (على قدر علمك) وبنمط معين ثابت (على قدر علمك أيضاً) بحيث تظن أن خلافه مستحيل، ولكنك لا يمكنك أن تنفي خلافه أو نقيضه، وهذا هو الفرق الرئيسي بين المسلمات والبديهيات. من البديهيات مثلاً أن الشمس تشرق في كل صباح، وهذا هو ما رأيناه جميعنا ورآه آباؤنا وأجدادنا في كل مكان على الأرض على حد علمنا، ولكن لا يمكننا أن ننفي بشكل قاطع أن الشمس في يوم ما في المستقبل لن تشرق في الصباح! على الرغم من أن هذا يبدو ’غير بديهي‘ لمعظم القارئين، غير أن تفكيراً عميقاً قصيراً يرينا أن تأكدنا من هذه الحقيقة ’البديهية‘ يرجع إلى أحداث مادية تكررت بنمط معين ثابت (على قدر علمنا) ولكننا لا يمكن أن نجزم بشكل قاطع أن هذا هو ما سيحدث في كل يوم المستقبل إلى ما لا نهاية!
    أما المسلمات في الرياضيات فمختلفة عن ذلك. كمثال على المسلمة الرياضية أن نقول أن الشيئين أكبر عدداً من الشيء الواحد، وخلاف ذلك (أو نقيض ذلك) مستحيل، لأن الشيئين لو كانا مساويين للشيء الواحد فكيف يكون الشيئان عبارة عن شيء واحد وشيء واحد آخر؟! لأنه في هذه الحالة فإن الشيء الواحد الآخر سيكون غير موجود (ولذلك فإن الشيء الأول يساوي الشيء الواحد في العدد) أو يكون الشيئان أقل من الواحد الصحيح (فيكملان بعضهما إلى الواحد الصحيح)، ولكن وجود شيئين يتطلب أن يوجد شيء واحد صحيح وشيء واحد آخر صحيح، ولذلك لا يمكن أن يكون الشيئان مساويين للشيء الواحد. وكذلك يستحيل أن يكون الشيئان أقل عدداً من الشيء الواحد لأن ذلك يعني أن الشيئين معاً لا يكونان واحداً صحيحاً، وهو ما يتناقض مع كون الشيئين واحداً صحيحاً واحداً آخر صحيحاً! أمثال هذه هي المسلمات في الرياضيات. يمكننا القول بثقة مطلقة أن المسلمات صحيحة 100% لأن خلافها مستحيل.
  • التعريفات (definitions: وهي مجموعة الخصائص التي يتفق على اشتراط وجودها في شيء لكي يصنف ضمن مجموعة، وهي مرتبطة بالأنماط كما سنناقشها لاحقاً. التعريفات ليست حقائق مطلقة، ولكنها أشياء متفق عليها، وما يليها من استنتاج منطقي يتبع فرضية صحة هذه التعريفات ويخضع للحدود التي ترسمها هذه التعريفات. التعريفات تختلف عن المسلمات في أن نقيضها غير مستحيل، وخلافها غير مستحيل، ولهذا فمن الممكن أن تتغير التعريفات من مكان لآخر ومن زمان لآخر. على سبيل المثال، وبعيداً عن الرياضيات، فإن تعريف ثمرة الطماطم مثلاً في ذهن الكثيرين أنها ثمرة حمراء لها شكل شبه كروي ولها طعم ورائحة معينين وبها بذور صفراء صغيرة. كل ما ينطبق عليه هذه الصفات يمكن تصنيفه على أنه من ثمرات الطماطم. في الرياضيات مثلاً، الخط المستقيم له تعريفات تختلف على حسب النظام الهندسي الذي يدرسه، فمن أحد تعريفاته مثلاً أنه أقصر مسافة بين نقطتين (في الهندسة التفاضلية)، ومن أحد تعريفاته الأخرى أنه مجموعة النقط التي تمثل حلولاً لمعادلة من الدرجة الأولى في عدد محدود من المتغيرات (في الهندسة التحليلية)، وهكذا. في كل من هذه النظم، التعريف مهم جداً لكي يمكن الخروج باستنتاجات، وهذه الاستنتاجات تنحصر في حدود التعريف المشتقة منه. شكل الأرقام مثلاً هو نوع من التعريف، ويختلف من لغة إلى لغة، ففي العربية مثلاً نستخدم الأرقام الهندية وهي ١ و٢ و٣ و٤ إلخ… وفي اللغات اللاتينية نستخدم الأرقام العربية (مفارقة غريبة) وهي ,1 و2 و3 و4 إلخ…، وفي الصينية لهم أرقام خاصة بهم هي و و و إلخ… وفي الهندية لهم أرقام أخرى هي و و و إلخ… وهكذا، ولكنها كلها تعني نفس التعريف. كذلك استخدام القيمة المكانية في كتابة الأرقام، وقد ناقشت هذا في مقال سابق. اختلاف التعريفات ينتج عنه اختلافاً شديداً في الفهم وما يمكن استنتاجه منها، وربما أن المقال السابق ذكره فيه ما يكفي عن استخدام البابليين للنظام الستيني مثلاً عوضاً عن النظام العشري، وبناء عليه فإن معنى الأرقام بالنسبة لهم مختلف تماماً عما تعنيه لنا أرقامنا المتعارف عليها الآن.
  • الأنماط (patterns): النمط هو تكرار أشياء معينة بنفس الترتيب في المكان أو الزمان، أو وجود خصائص معينة تتكرر في مجموعة من الأشياء. الأنماط تعني دائماً التكرار والثبات، أو ثبات التكرار. كل ما يتكرر بشكل ثابت يشكل نمطاً ما، ونعرّف النمط بذكر القاعدة التي تحدد التكرار بشكل متفرد، فمثلاً مجموعة الأعداد ١، ٣، ٥، ٧ إلخ… هي مجموعة الأعداد التي تبدأ بالعدد ١ وتستمر بإسقاط العدد التالي وأخذ ما بعده، أو ما نطلق عليها تعريفاً الأعداد الطبيعية الفردية، ومجموعة النقاط في المستوى التي تبعد مسافة واحدة ثابتة عن نقطة معينة في نفس المستوى هي النقاط التي تشكل نمطاً نسميه الدائرة، ومجموعة الأعداد ١، ١، ٢، ٣، ٥، ٨ إلخ… هي مجموعة الأعداد التي تبدأ بالعدد ١ مرتين ثم كل عدد تال فيها هو مجموعة العددين السابقين له، وهو ما نطلق عليه تعريفاً في الرياضيات متتالية فيبوناتشي. الأنماط هي كيان ما، نصفه بدقة عن طريق تعريفه. الأنماط وصف وليست بالضرورة مرتبطة بالعدّ، وليست حقائق دحضها مستحيل كالمسلمات، ولا الأنماط هي التعريفات، وإنما نعتمد على التعريفات لفهم الأنماط، فمثلاً نمط الأعداد الفردية موجود سواء أخبرنا عن تعريفه أم لم نخبر، وهناك عدد لا نهائي من الأنماط التي لا اسم لها والتي ربما لا نعرفها، وهي موجودة حتى في غياب تعريف لها.
  • المنطق الاستنباطي (deductive reasoning): وهو نوع من المنطق يحتم صحة استنتاجاته في حالة صحة مقدماته، وأقصد بكلمة ’يحتم‘ أن خلاف ذلك مستحيل بشكل مطلق، وكل الإثباتات الرياضية تنبع مما سبق وتستخدم المنطق الاستنباطي للوصول إلى المزيد حقائق، ثم تستخدم هذه الحقائق معاً بالمنطق الاستنباطي للوصول إلى المزيد من الحقائق الأكثر تعقيداً وهكذا. المشكلة هنا تكمن في عدم الالتفات إلى أهمية التعريفات. ناقشنا سابقاً أن التعريفات مهمة في الرياضيات لأنها ترسم الحدود للاستنتاجات المشتقة منها، ويوضح ذلك في الرياضيات نظرية المجموعات المبسطة (naive set theory) التي وضعت تعريفاً غير كامل لما يمكن أن يطلق عليه مجموعة، وذلك نتج عنه بعض المفارقات من أشهرها مفارقة راسل (Russel's paradox) المنسوبة إلى عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل (Bertrand Russel)، ولكن تم تلافيها فيما بعد في النظريات الأحدث. نظرية المجموعات المبسطة لا زالت صحيحة في معظم الحالات، إلا في تلك المفارقات، وهذه هي حدود نظرية المجموعات المبسطة، فهي ليست خاطئة على الإطلاق، ولكنها ليست صحيحة بشكل مطلق في جميع الأحوال.
    وفي حالة إهمال التعريفات فإن المنطق الاستنباطي يؤدي إلى نتائج خاطئة، فمثلاً من أشهر الأخطاء في الرياضيات إهمال أن القسمة على الصفر غير معرفة رياضياً (ليس لها معنى ولا يمكن استخدامها)، وبالتالي يمكن إذا أهملنا غياب تعريف القسمة على الصفر أن نثبت ما هو خطأ بشكل مطلق. على سبيل المثال (الخطوات الخاطئة والنتيجة الخاطئة باللون الأحمر):
    \[ \begin{equation} \label{eq:error} a=b \end{equation} \\ \] \[ \begin{array}{l} \text{Multiplying by } a^2 \\ a^3 = a^2b \\ \text{Subtracting } b^3 \\ a^3 - b^3 = a^2b - b^3 \\ \text{Factoring and }\color{red}{\text{dividing by } (a-b)}\\ \cancel{\color{red}{(a-b)}}(a^2+ab+b^2) = b(a^2 - b^2) = b\cancel{\color{red}{(a-b)}}(a+b) \\ a^2+ab+b^2 = b(a+b) \\ \text{Substituting from } \eqref{eq:error} \\ a^2+a \times a+a^2 = a(a+a) \\ a^2+a^2+a^2 = 2a^2 \\ 3a^2 = 2a^2 \\ \color{red}{3 = 2} \end{array} \]

وهكذا تكون علم الرياضيات وتطور على مر الزمان لكي يكون هذا الكيان الذي يرعب الكثيرين التفكير فيه والذي يؤرق مضاجع الطلبة، ولكنه في واقع الأمر بناء مكون من وحدات ذات عدد محدود وصغير، وبفضل تراكم المعرفة البشرية على مر العصور صار هذا البناء برجاً ضخماً يبعث الرهبة في النفوس. تأمل علم الرياضيات من هذا المنطلق وحاول أن تتعلمه منه وأن تعلم الآخرين منه أيضاً، وستجد أن الرياضيات ليست مخيفة ولا مستحيلة، لكنها بسيطة في جوهرها وجميلة في تجردها عن المادة.


نسب المصنفات


المقال التالي: الجمع والطرح


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق