بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 يوليو 2016

نشأة الأرقام

هذه التدوينة هي من سلسلة تدور حول تاريخ الأرقام. هذا الرابط يحتوي على قائمة بالتدوينات المتعلقة بهذا الموضوع.

الأرقام هي تعبير عن مفهوم بسيط وبدائي جداً هو العدّ—لكنه في ذات الوقت من المفاهيم الأساسية التي تبنى عليها علوم الرياضيات، وبالتالي كل فروع العلوم الحديثة التي تحتاج إلى قياس وتجريب—فكيف نشأت الأرقام وكيف تطورت من القديم إلى عصرنا الحالي؟

أبسط طرق العد تتمثل في القيام بعمل رمز معين واحد لكل شيء واحد يتم عده، بحيث يكون هناك علاقة تطابق بين الرموز والأشياء المراد عدها (one-to-one relationship)، ويظن أن هذه أقدم طريقة عرفها البشر للعد. من أشهر الآثار التي يظن أنها كانت تستخدم للعد عظمة إيشانجو (Ishango bone) وهي عظمة من عظام قرد البابون تم اكتشافها في الكونغو عام ١٩٦٠، ووجد عليها علامات محفورة في مجموعات، ويظن أنها كانت تستخدم للعد. تم أيضاً اكتشاف عظمة ليبومبو (Lebombo bone) في سوازيلاند، وهي أقدم من عظمة إيشانجو، ويظن أن العلامات المحفورة عليها كانت تستخدم في تتبع التقويم القمري، كما اكتشفت أيضاً عظمة ذئب—تسمى أحياناً عظمة ’الذئب‘ (Wolf bone) نظراً لأهميتها التاريخية—في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٣٧، وعليها أيضاً علامات محفورة يظن أنها كانت تستخدم لنفس الغرض.

عظمة إيشانجو[١]
عظمة ليبومبو[٢]
عظمة الذئب[٣]

واستخدم قدماء المصريين هذه الطريقة منذ زمن طويل قبل أن يبتكروا نظاماً رقمياً خاصاً بهم، وكانت الإلهة سيشات (Seshat) هي إلهة الحكمة والمعرفة والكتابة، وكانت أيضاً ترتبط بالكتب والمكتبات والحساب والإحصاء، وتصور على شكل امرأة على رأسها شعار ذو سبعة أفرع، وتقوم بكتابة شيء ما، والأشيع أنها تمسك بجذع سعفة من النخيل تحفر عليها علامات (مشابهة للعلامات السابق ذكرها في العظام المكتشفة) لتعد بها سني ملك الفرعون. أقدم ذكر للإلهة سيشات يعود إلى الأسرة الرابعة، حوالي ٢٥٠٠ سنة قبل الميلاد على الأرجح.

Seshat in Luxor.jpg
نقش للإلهة سيشات في معبد آمون بالأقصر[٥]
Seshat.svg
رسم توضيحي للإلهة سيشات[٤]

وظلت تلك الطريقة مستخدمة في الكثير من مناطق العالم (وربما في كل العالم في فترة ما من فترات التاريخ)، وفي أوروبا ظلت مستخدمة حتى القرون الوسطى، وكانت من أشهر طرق التعامل التجاري في بعض المناطق لحساب الديون، فكانت تستخدم عصا خشبية (tally stick) يحفر عليها عدداً من العلامات التي ترمز للدين، ويمكن كتابة بعض الكلمات عليها أيضاً للتوضيح، وكانت العصا تقسم لنصفين، فيظل أحد النصفين مع الدائن والآخر مع المدين، وكانت تقبل هذه العصيان في المحاكم كدليل على الدين، ومع الوقت أدخل على هذا النظام بعض التعديلات لمنع التلاعب في الدين عن طريق تغيير عدد العلامات الموجودة على العصيان، وكان من أهم هذه التعديلات أن نصفا العصا يكون لهما شكل معين بحيث يكمل بعضهما البعض (كما يدخل المفتاح في قفل معين مثلاً دون غيره) فلا يلتئم النصفان إذا حدث تلاعب في العلامات على العصيان.

Medieval tally sticks.jpg
عصا حساب إنجليزية[٦]
SAM PC 1 - Tally sticks 1 - Overview.jpg
عصيان حساب سويسرية[٧]

ومع تطور الكتابة، ظهرت مواد الكتابة المختلفة من أحبار وأوراق أو جلود أو غيرها، وصار من الممكن كتابة العلامات بسهولة بدلاً من حفرها على الأخشاب أو العظام، ولأن أسهل الرموز في الرسم وأوضحها في نفس الوقت هو الخط، فإن القدماء استخدموا الخطوط لهذا الغرض. على سبيل المثال وكما في الشكل التالي، فإذا أردنا التعبير عن عدد ثلاث تفاحات (أو أي ثلاثة أشياء) نرسم ثلاثة خطوط.

استخدام العلامات الإحصائية (tally) للتعبير عن الأرقام

ولكن الأمور تصبح أكثر تعقيداً عندما يزيد العدد عن ٣ أو ٤. عند رسم أكثر من ٤ خطوط بجوار بعضها البعض يصبح من الصعب التعرف على العدد بنظرة سريعة، ويتطلب التعرف عليه القيام بعدّ كل الخطوط، مع الوضع في الاعتبار إمكانية الخطأ أثناء العد. ولهذا أوجد القدماء طريقة تسهل التعرف على العدد إلى حد ما بنظرة سريعة، وهي تجميع (clustering) كل ٥ خطوط مع بعضها البعض بوضع الخط الخامس مائلاً على الخطوط الأربعة السابقة له، ثم نبدأ رسم الخطوط التالية بنفس الطريقة بحيث نجمع كل ٥ خطوط مع بعضها البعض في مجموعات. الشكل التالي يوضح التعبير عن عدد ٨ ثمرات موز بدون تجميع الخطوط كل ٥ في مجموعة واحدة (في الجزء العلوي)، وبتجميع كل ٥ خطوط مع بعضها (في الجزء السفلي). نرى من الشكل أن تجميع الخطوط في مجموعات ذات عدد ثابت يسهل من التعرف على الأرقام بمجرد النظر.

تجميع العلامات الإحصائية في مجموعات من ٥ خطوط لتسهيل القراءة

ولا نعرف على وجه التحديد لماذا اختار القدماء أن تكون المجموعات من ٥ خطوط، ولكن البديهي الذي يتبادر إلى ذهننا أن ذلك ناتج عن كون البشر لهم ٥ أصابع في كل يد وكل قدم، وبالتالي فإن مجموعات من ٥ خطوط بالنسبة لهم تشبه الأصابع الخمسة في كل يد.

المجموعات من ٥ خطوط تبدو بديهية بسبب وجود ٥ أصابع في اليد البشرية

وهذه الطريقة البدائية في التعبير عن الأرقام فعالة جداً وسريعة طالما الأرقام المراد التعبير عنها صغيرة نسبياً، لكن عندما تكبر الأرقام—وهذا حتمي مع تطور الحضارة البشرية—تصبح هذه الطريقة غير فعالة. على سبيل المثال، الشكل التالي يوضح كيفية كتابة رقم ١٣٣ بهذه الطريقة، ونرى من الشكل أن التعرف على الرقم بسهولة من نظرة بسيطة هو أمر شبه مستحيل.

رقم ١٣٣ معبراً عنه بالعلامات الإحصائية، ونرى من الشكل أن التعرف على الرقم بسهولة من نظرة بسيطة أمر شبه مستحيل

هذا النظام الرقمي هو نظام أحادي (unary system) يعتمد على علامة واحدة فقط، وسنتعرف على النظم المختلفة للأرقام في المقالات التالية، ولا تتأثر قيمة العلامة في هذا النظام بمكان وضع العلامة، فكل علامة في هذا النظام تعني شيئاً واحداً فقط أياً كان مكانها في الكتابة، أي أنه لا يوجد فيه قيمة مكانية (place value) بعكس كل الأنظمة الرقمية الحديثة التي نستخدمها اليوم، وهذا أيضاً سيأتي الحديث عنه لاحقاً. ولا تزال هذه الطريقة مستخدمة إلى الآن في عد الأرقام الصغيرة، مثل عد النقاط أثناء اللعب بالأوراق (الكوتشينة) أو أثناء المراهنات أو في العديد من الألعاب الترفيهية، ولكنها لا تصلح لأي أغراض جادة على مستويات كبيرة. ولهذا كان لا بد للبشر من اختراع نظام مختلف للأرقام يمكنهم من التعبير عن الأرقام الكبيرة وكذلك التعبير عن الكسور، وهو ما لا يوفره هذا النظام البسيط.


الحلقة التالية:


نسب المصنفات

باستثناء المصنفات المنسوبة فيما يلي، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دوليرخصة المشاع الابداعي.

  1. عظمة إيشانجو: African HeritageA blog about African history, and heritage, through audio and video files.
  2. عظمة ليبومبو: Originalpeople.orgLessons from our past help us deal with the present, in hopes of creating a better future!
  3. عظمة الذئب: ملف PDF من موقع مكتب الإحصاء التشيكي (Czech Statistical Office)
  4. رسم توضيحي للإلهة سيشات: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
  5. نقش للإلهة سيشات في معبد آمون بالأقصر: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
  6. عصا حساب إنجليزية: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا
  7. عصيان حساب سويسرية: موسوعة الإنترنت ويكيبيديا

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق