بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 9 أكتوبر 2016

قوانين التفكير

أرسطو
أرسطو

قوانين التفكير هي قواعد ثلاثة بسيطة تشكل الأساس لكل عملية فكرية نعملها، وهي كأي فكرة أولية لا يمكن إثباتها ولا استنتاجها من شيء آخر، لكن نقيضها أو نفيها يمكن الجدل ضده بقوة، ومنها قوانين ثلاثة تقليدية يعود تاريخها إلى زمن أفلاطون (Plato) الفيلسوف الإغريقي الشهير، وعلى مر القرون توصلنا إلى معرفة أصح لهذه القوانين وكيفية استخدامها، وفي خلال عصر النهضة في أوروبا حدث الكثير من التطور في العلوم والفلسفة، فأعاد العالم الألماني الشهير لايبنتس (Leibniz) مراجعة هذه القوانين وأضاف إليها، على الرغم أن بعض إضافاته لا تزال محل جدل. في هذا المقال أناقش قوانين التفكير ومعناها وكيفية استخدامها الصحيح، وأقدم بعض أمثلة لاستخدامها في الرياضيات، لكن الأمثلة الرياضية ليست ضرورية لفهم قوانين التفكير ولا النقاش هذا.

قوانين التفكير هي جوهر عملية التفكير، وكل شيء نفكر فيه يعتمد على الاستخدام الصحيح لهذه القوانين. كل مجال الرياضيات مبني على مجموعة صغيرة من الأفكار البسيطة الأولية، وواحدة منها المنطق الاستنباطي (Deductive reasoning) الذي هو مبني على قوانين التفكير. الرياضيات هي حجر الأساس لكل العلوم الحديثة، لأن المنهج العلمي يتطلب القياس الكمي، الذي يستحيل بدون الرياضيات، ولهذا فإن كل العلوم الحديثة لم تكن لتوجد بدون قوانين التفكير. وعلى الرغم من أن قوانين التفكير تبدو بديهية، إلا أنها كثيراً ما تستخدم بشكل خاطئ، وأناقش في هذا المقال بعض أسباب الاستخدام الخاطئ لها.

هذا المقال طويل إلى حد ما، ولكل من لا يملك الوقت ولا عنده الاهتمام لقراءة كل شيء فإن الأفكار المفتاحية موضوعة في مستطيلات رمادية بجانب صورة مفتاح، وهي بجوار الأماكن التي نوقشت فيها، ويمكن أن يمر القارئ سريعاً عليها ويقرأ نقاش الموضوعات ذات الاهتمام، كما توجد بعض الصور والرسومات التوضيحية لدعم المعنى. بعض النقاش والأمثلة في الرياضيات فني للمهتمين، وهو موضوع في مستطيلات رمادية لكن بدون صورة المفتاح، ولغير المهتمين بالرياضيات، فإن هذه الأجزاء من المقال يمكن تجاهلها تماماً.

أولاً: قانون الهوية

س = س
الشيء هو نفسه!

هذه الجملة بسيطة وبديهية لدرجة أنه يكاد يكون من العبث أن نؤكد عليها كقانون للتفكير، فماذا يمكن أن يكون الشيء إلا نفسه؟! أولاً دعونا نؤكد على أن قوانين ’التفكير‘ تختص ’بالأفكار‘! ألا يبدو هذا سخيفاً؟! قد لا يبدو هكذا عندما نعيد التفكير فيما نعنيه بقانون الهوية. ’الشيء هو نفسه‘ تعود على الأفكار وليس الأشياء المادية، فكل شيء مادي نعرفه له فكرة تقابله في عقولنا، ولكن ليست كل فكرة في عقولنا لها شيء مادي يقابلها، فعندما نذكر مثلاً فكرة ’الحرية‘، فإننا نفهمها، ولكن لا يوجد من يمكنه أن يحمل في يديه شيئاً مادياً هو نفسه الحرية، وإذا حمل أحد في يديه شيئاً لا يعرفه، فلا تزال في عقولهم فكرة ’الشيء غير المعروف‘ تقابله. عالم الأفكار إذاً يحتوي على العالم المادي كلية، ويمتد إلى ما هو أوسع منه. ما نعنيه بقانون الهوية أن الأفكار لا بد أن تكون معرفة بدقة لتجنب الالتباس الذي يؤدي إلى الاستنتاجات الخاطئة، وبخلاف العالم المادي، فإن الأفكار يمكن تشكيلها كيفما شئنا، بل يمكن تشكيلها بأشكال تستحيل في العالم المادي، فيمكن أن نتخيل أياً ما شئنا، حتى وإن كان من المستحيل أن نراه أو نلمسه، لكننا عرضة للوقوع في الخطأ عند التفكير، لأن بناءنا يناسب الكفاءة في العمل وليس الدقة.

عملية التفكير الطبيعية

إننا نميل بشكل كبير إلى التفكير السريع حتى وإن كان هذا يعني اننا لا نفكر بدقة. تخيل أنك تمشي في الغابة ورأيت ما تظنه حيواناً مفترساً... الغالبية العظمى من البشر—إن لم يكن كل البشر في الكون—سيفرون (إلا إذا كان الشخص في الغابة ليقاتل الحيوان المفترس أو شيء من هذا القبيل) ولن ينتظروا ليتأكدوا أن الموقف بالفعل يشكل خطراً يستدعي الفرار، وبهذا فإنهم يعظمون من فرصتهم في البقاء. ما زال هذا ينطبق علينا اليوم، حتى وإن كان السياق مختلفاً. تخيل أنك تمشي في الشارع وسمعت ما يبدو أنه صوت إطلاق رصاص أو انفجار... رد الفعل المبدئي للغالبية العظمى من الناس أنهم سينحنون أو يرقدون أرضاً، أو يختبئون أو يتسترون بشكل أو بآخر، وفقط عندئذ قد يغلب الفضول وقد يحاولون استكشاف ما حدث أو لا يحاولون. لن يكون رد الفعل المبدئي هو استكشاف مصدر ما يبدو خطيراً لتحديد إذا ما كان بالفعل خطيراً.

نحن نميل بشكل كبير إلى التفكير في الصورة الكبيرة أكثر من التفكير في التفاصيل، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بسلامتنا.

عملية التفكير الطبيعية في البشر مبنية لتناسب الكفاءة في العمل وليس الدقة.

نحن أيضاً نميل إلى استخدام طرق مختصرة في عملية التفكير لتوفير الموارد. أكثر الموارد قيمة، وهو الذي لا يمكن استعادته أو الاستعاضة عنه هو الوقت، ولهذا فإن التفكير السريع أهم من التفكير الدقيق، وإذا كانت عملية التفكير عندنا دقيقة بما يكفي فإننا نبدو راضين تماماً باستنتاجاتنا، بل أحياناً نكون منحازين بشدة لاستنتاجاتنا التي وصلنا إليها عن طريق هذه الطرق المختصرة انحيازاً يكفي لأن نشن حروبنا الشخصية الصغيرة دفاعاً عما نعتقده. نحن نميل إلى أن نفقد البصيرة لهذه الحقيقة—أننا مبنيون للكفاءة وليس الدقة—لأنها شائعة جداً وتبدو كأنها من صميم البنيان المادي لنا، وعندما نفقد هذه البصيرة نتعرض للالتباس.

كم مرة سمعت عن ضابط شرطة (أو أي إنسان مسلح) أطلق الرصاص على شخص ما لأنه ظن أن هذا الشخص مسلح وخطر، واتضح أنه مخطئ؟! للأسف هذه ليست حادثة نادرة، والطريق المختصرة التي تعمل في عقولهم في ذاك الوقت هي ’هذا الشخص يبدو أنه مسلح؛ وهو يبدو أنه ينوي استعماله؛ وإذا استعمله فقد يقتلني؛ أنا أريد أن أعيش؛ لذلك علي أن أمنع ذلك من الحدوث؛ أنا أحمل سلاحاً؛ يمكنني أن استخدم سلاحي؛ القانون يعطيني الحق في الدفاع عن نفسي؛ حتى إذا قتلت هذا الشخص دفاعاً عن النفس فإنني لن أُعاقَب؛ وبناء عليه فإنني سأستخدم سلاحي حتى لو أدى ذلك إلى مقتل ذلك الشخص‘. بالطبع لا أحد في موقف مثل ذلك سيأخذ وقته في التفكير في كل ذلك، ولكنهم ببساطة يتصرفون تلقائياً كرد فعل للموقف. هذا جيد لبقاء النوع، ولكنه أحياناً يؤدي إلى حكم سيء على المواقف. هذا النوع من التفكير يرتبط بمغالطة منطقية تسمى ’مغالطة المنحدر الزلق‘ (Slippery slope fallacy)، وهي تستخدم كثيراً في تخويف الجموع، وخصوصاً لأغراض سياسية.

فيديو عن نوع من تجارب آش للمضاهاة يوضح كيف أن اتباع الأغلبية يمكن أن يكون ضاراً

كم من مرة في التاريخ تستطيع أن تحدد مواقف اتبع فيها جماهير غفيرة من الناس بعض الأفكار الخاطئة فقط لأن الأغلبية كانوا يفعلون ذلك؟! الطريق المختصر في هذه الحالة هو ’الناس يريدون أن يحسنوا من أوضاعهم لا أن يجلبوا لأنفسهم الأذى؛ الأغلبية من الناس لا بد أنهم يتبعون هذا المنهج في التفكير؛ لا بد أن ما يفعله الأغلبية هو جيد بالنسبة لهم؛ أنا أريد ما هو جيد بالنسبة لي؛ لذلك فسوف أفعل ما يفعله الأغلبية‘. هذا النوع من التفكير هو في حقيقة الأمر شائع جداً، وهو أساس المغالطة المنطقية المسماة ’الاحتكام إلى الشيوع‘ (Appeal to popularity) أو ’الاحتكام إلى الأرقام‘ أو ’الاحتكام إلى الجموع‘ أو ’الجدلية القائمة على الإجماع‘، وهو ما يشابه ما يحدث في عالم الحيوان عندما يبدأ عدد كاف من القطيع في الجري في اتجاه ما، فيتبعه كل القطيع بشكل سلبي بدون أن تعرف الحيوانات ماذا يفرون منه أو ماذا يجرون تجاهه. هناك مجموعة من التجارب الشهيرة تسمى ’تجارب آش للمضاهاة‘ (Asch conformity tests) وتنويعاتها المختلفة التي قدمت دليلاً على أن هناك نوعاً من الغريزة تحثنا على مضاهاة الأغلبية. الهروب من الحيوانات المفترسة بدون الانتظار للتأكد من خطورة الموقف يصب في مصلحة بقاء النوع، ولهذا فمثل هذه الغريزة جيدة لبقاء النوع، لكن الكثير من الضرر حدث على مر تاريخ البشر بسبب هذه الغريزة! الفرق بين الحيوان والإنسان أن الإنسان يمكنه أن يروض هذه الغريزة ويخضعها للعقل، فاتباع الأغلبية مفيد في حالات محدودة، لكنه في عديم القيمة وربما مضر أيضاً حينما يتعلق الأمر بالموضة والدعاية المغرضة. على الجانب الآخر، كم من الناس في تاريخ العلم تحدو المعتقدات السائدة في عصرهم وفكروا بشكل مجَدِّد؟ هؤلاء كانوا عدداً قليلاً جداً لدرجة أنهم يشكلون كسراً صغيراً مهملاً مقارنة بكل من عمل في مجال العلم، ولكن هؤلاء هم الذي أحدثوا التغيرات الجذرية الثورية في العلم عن طريق عدم أتباع الأغلبية!

نحن مبنيون بغرض الكفاءة وليس الدقة، ولكننا يمكن أن نتجاوز هذه ’الإعدادات الافتراضية‘ في أغلب المواقف ونفكر بدقة، بل أننا يجب أن نفعل ذلك في كل موقف ممكن. لكن التفكير الدقيق لا يعيقه فقط عملية التفكير الطبيعية، لكن يعيقه أيضاً اللغة الطبيعية.

غموض اللغات الطبيعية

لافتة قف
هل يمكنك الجلوس عند هذه اللافتة؟

اللغات الطبيعية (Natural languages) هي تلك اللغات التي استخدمها الإنسان في حياته اليومية للتواصل منذ فجر التاريخ، وقد تطورت بشكل طبيعي بناء على عملية التفكير، بدون إعطاء اهتمام خاص للقواعد والدقة، وإنما جاءت القواعد في مرحلة لاحقة عندما بدأت اللغات في النضوج، وكان للغات البدائية بعض الأشكال اللغوية البسيطة كمتطلب ضروري لأي لغة ليمكن استخدامها. الهدف الأساسي من اللغة هو تسهيل توصيل الأفكار بين الأشخاص، ولهذا فإن اللغة يجب أن تعمل بكفاءة على قدر الإمكان، لأن البشر عندهم قدرة محدودة على الاستذكار، واللغة تتطلب بالضرورة استذكار الكلمات، ولهذا فإن استخدام الكلمات بكفاءة يعني أننا يمكن أن نستخدم الكلمة نفسها بأكثر من طريقة للتعبير عن أشياء مختلفة. معنى الكلمات يعتمد على السياق وعلى الفرضيات. من السهل التأكد من ذلك عن طريق فتح أي قاموس لأي من اللغات الطبيعية والتأكد بنفسك، فمن شبه المستحيل أن تجد كلمة لها معنى واحد فقط.

السياق من المحددات العظمى لكيفية فهمنا للكلمات، وفي اللغة العربية يظهر هذا أكثر من العديد من اللغات الأخرى لأن اللغة العربية تعتمد في فهم كلماتها على التشكيل الذي قليلاً ما يستخدم، كما أنه مستحدث في اللغة، ويعتمد الكاتب على أن القارئ سيفهم المعنى المقصود للكلمة من سياقها، فمثلاً الكلمة ’كبر‘ يمكن أن تقرأ ’كَبُرَ‘ بمعنى زاد أو نما، أو ’كَبَّرَ‘ بمعنى جعل الشيء يكبر أو ينمو، أو بمعنى التكبير في قول ”اللهُ أَكْبَرُ“، أو ’كَبِرَ‘ أي زاد في السن، أو ’كَبَرَ‘ فيقال كَبَرَ فلان فلاناً بسنة أي زاد عليه في السن سنة، أو ’كِبَر‘ وهو عكس الصِغَر، أو ’كِبْر‘ بمعنى الكبرياء والاستعلاء أو بمعنى العظمة والرفعة، أو ’كُبْر‘ وهو الأكبر من الأبناء أو من القوم، أو ’كُبُرّ‘ وهو أكبر الأبناء، أو ’كِبْر‘ و’كُبْر‘ الشيء وهو معظمه، أو ’كُبَر‘ وهي جمع كبرى، أو ’كَبَر‘ وهو نبات له شوك وهو أيضاً طبل له وجه واحد، وكلها لها نفس الشكل في الكتابة مع اختلاف التشكيل فقط. ليس هذا وحسب، بل إن الكلمة الواحدة بنفس التشكيل قد يكون لها أكثر من معنى على حسب السياق وهذا واضح في الأمثلة السابقة، وكمثال آخر فإن كلمة ’عَيْن‘ تعني أشياء مختلفة في سياقات مختلفة، فمثلاً معناها في ”أبصرته بعيني“ خلاف معناها في ”استقيت من عين ماء“ أو معناها في ”أرسلت عيناً يتجسس عليه“ أو ”هذا البيت عينه بيتي“. وليس السياق اللغوي هو المحدد العظيم الوحيد لمعنى الكلمات، بل سياق الموقف أيضاً، لا سيما في حالة التواصل اللفظي أو التواصل وجهاً لوجه، الكثير من المعنى الذي نفهمه يصل إلينا عن طريق التواصل غير اللفظي (Non-verbal communication). فكر في المعاني الممكنة التي يمكن أن تحملها كلمة ’نعم‘ في العامية المصرية! اعتماداً على الموقف وكيفية نطق الكلمة وتعبيرات الوجه فإنها يمكن أن تكون استجابة لنداء، ويمكن أن تكون تعبيراً عن دهشة، ويمكن أن تكون تعبيراً عن ضجر من إلحاح، ويمكن أن تكون استنكاراً (وتنطق حينئذ ’ناااعااام‘). ليس هذا فحسب، بل إننا نستخدم اللغة في التعبير عن المشاعر أيضاً.

الغموض من خصائص اللغات الطبيعية، وهو في صالح الكفاءة في استخدام اللغة على حساب الدقة والوضوح.

مثال على ’التعبير الاصطلاحي‘ (Idiom) وهو شائع في الأمثلة الشعبية

التعبير عن المشاعر ليس بالأمر اليسير، لأن المشاعر تجربة شخصية تماماً، ونحن نفترض أن الآخرين يشعرون بما نشعر به، لكن هناك الكثير من الأدلة على أن المشاعر تختلف كماً وكيفاً بين الأشخاص، والتحدي الكبير هنا أن تتمكن من توصيل شيء لا يشعر به سواك إلى شخص آخر، ولهذا فإنني أعتقد أن التعبيرات الاصطلاحية (Idioms) نشأت لهذا السبب، أو على الأقل كان له دور جزئي في نشأتها. نحن نستخدم مثل هذه التعبيرات لتوصيل أفكار لا علاقة لها على الإطلاق بالمعنى الحرفي للكلمات، فنقول مثلاً ”القرد في عين أمه غزال“ للتعبير عن انحياز وجهة نظر المحب لمن يحبه، ونقول ”حبيبك يبلع لك الزلط“ للتعبير عن أن المحب يتجاوز عن الكثير من أخطاء وعيوب من يحبه، وهكذا. اللغات الطبيعية أبعد ما يكون عن الدقة، والكلمة يمكن أن يكون لها أكثر من معنى، وأحياناً التعبيرات لا يكون لها علاقة على الإطلاق بالمعني الحرفي للكلمات!

بالإضافة إلى ذلك فإننا نفترض أن بعض الأشياء مستحيل—وهو غير ذلك—ونهمل تماماً أن يكون للكلام مثل هذا المعنى بناء على فرضيتنا هذه. على سبيل المثال في قولنا في الحديث عن تقسيم الميراث ”فلان أكل أخته“ نفهم منها أن المراد تشبيه ميراث الأخت بالطعام، وليس أن فلاناً بالفعل أكل لحم أخته، على الرغم من عدم وجود ما يمنع أن يتحقق هذا بالفعل، لكنه مستبعد لشدة ندرة حدوثه، فنفهم من الكلام ما يبدو لنا معقولاً وارد التحقق.

مثل هذه التعبيرات لا تقتصر على اللغة العربية، بل كل اللغات الطبيعية بها تعبيرات مماثلة ولها خصائص مماثلة، وهذا الغموض في اللغة الطبيعية يتماشى مع كفاءة عملية التفكير البشري، ولكنه مع الأسف يتماشى أيضاً مع عدم دقة عملية التفكير أيضاً، وبما أننا نوصل أفكارنا عن طريق الكلمات، فإنه من الصعب التعبير عن الأفكار بدقة، ويتطلب ذلك جهداً واعياً من كل طرفي التواصل، أي من مصدر الكلام ومن متلقي الكلام، وإذا ما بدأنا في التفكير في أفكارنا بشكل فضفاض فإننا قد ننتهي إلى الخلط بين هذه الأفكار، كما لو كنا نعدّ ثمار التفاح والبرتقال معاً على أنهما نفس النوع من الفاكهة. قانون الهوية يؤكد على أهمية التعريف الدقيق للأفكار.

تعريف الأفكار بدقة ووضوح هو مفتاح للتفكير السليم.

فماذا إذاً؟!

مثال مضحك باللغة الإنجليزية يتضمن شيئاً من المواربة.

قانون الهوية يتعلق بالأفكار وليس الكلمات أو الأشياء المادية، وليس هناك فكرتان متطابقتان، وأصغر فرق بين فكرتين يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً في الاستنتاجات المبنية عليهما، على الرغم أن مثل تلك الفروق أحياناً تكون ليست ذات صلة وعديمة التأثير على الاستنتاجات، لكن وجود مثل هذا التأثير أو عدمه لا يمكن التأكد منه بشكل تام إلا عند توضيح أن الفروق لا تحدث تأثيراً على الاستنتاج بالفعل، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا عند توضيح الفروق نفسها بدقة. استخدام الأفكار أو الكلمات بشكل فضفاض في الجدل المنطقي بحيث يكون لها أكثر من معنى في نفس السياق هو مغالطة منطقية تسمى ”المواربة“ (Equivocation)، مثل أن نقول ”يأكل فلان بحذاء صاحبه؛ وصاحبه لا يملك إلا حذاء واحداً؛ إذاً صاحبه الآن حافي القدمين“ وفي هذا مغالطة لأن ’حذاء‘ في الجملة الأولى تعني ’إزاء‘ أو ’مقابل‘، وفي الجملة الثانية تعني ’نعل‘، فالمعنى ليس واحداً في نفس السياق، وبالتالي فإن ’حذاء‘ في الجملة الأولى ليست هي ’حذاء‘ في الجملة الثانية. ولكن المواربة ليست دائماً بهذا الوضوح، وما أريد التركيز عليه هنا أن المعنى هو المهم وليس اللفظ. وأترك للقارئ التفكير في أمثلة أخرى للمواربة.

في الرياضيات

الغموض غير مقبول في الرياضيات، وكل شيء في الرياضيات يجب أن يكون له معنى واحد فقط لا غير في سياقه، وبالطبع يمكن أن يختلف معنى الرمز الواحد في السياقات الرياضية المختلفة، لكن في مثل هذه الأحوال فإن تقرير المعنى بوضوح يفضل دائماً وينصح به، وفي العموم فإن الوضوح والدقة قواعد جيدة للتطبيق في عملية التفكير، على الرغم من أنهما لا يتماشيان مع الغريزة التي تدفعنا إلى أن نعمل بكفاءة، لكنهما قد نقلا الإنسان نقلة كبيرة من زمن الصيد وجمع الطعام من البرية إلى عصرنا الحاضر.

في المثال التالي:
إذا كانت \(i^2=-4\)، فما هي قيمة \(i\)؟
قيمة \(\sqrt{-4}\) هي \(2i\) بحيث أن \(i\) الوحدة التخيلية في الأرقام المركبة، أي أن \(i^2=-1\). وقد يكون من المغري أن نكتب \(i=2i\)، مما ينتج عنه أن \(1=2\) وهذا بالطبع خطأ، لأن \(i\) في رأس السؤال ليست هي نفسها \(i\) المعبرة عن الوحدة التخيلية، فالأولى \(i=-4\) ليست كالأخيرة \(i=-1\)، ولهذا فإلغاؤهما من طرفي المعادلة بالقسمة خطأ. في الرياضيات يفترض دائماً أن الرمز الواحد له معنى واحد في نفس السياق الواحد، ولهذا فإننا نتجنب استخدام الرمز \(i\) في أي سياق له علاقة بالأعداد المركبة بخلاف أن يكون معناه الوحدة التخيلية، وكذلك نفعل نفس الشيء مع الرموز الرياضية الشهيرة مثل \(\pi\) و \(e\).

ثانياً: قانون عدم التناقض

ليس (س وليس س)
لا شيء يمكن أن يكون (نفسه) ولا يكون (نفسه)!

قد لا يبدو هذا القانون واضحاً أو بديهياً كالقانون السابق، ويحضرني في هذا السياق مثال طفولي على أن هذا القانون لا يعمل، وهو عندما يقول أحدهم ”أنا جوعان بعض الشيء“، فهل هو ’جوعان‘ أم ’ليس جوعاناً‘؟ هو ليس حقيقة ’جوعاناً‘ لكنه ليس ’غير جوعان‘ أيضاً! فهل يمكن أن يكون إنسان ما جوعاناً وغير جوعان في الوقت ذاته؟ لهذا يتوجب علينا الرجوع اى القانون الأول: قانون الهوية. التعبير ’جوعان بعض الشيء‘ ليس هو ذاته التعبير ’جوعان‘ ولا هو التعبير ’غير جوعان‘، والتفكير في المعاني الثلاثة على أنها معنى واحد خطأ، لأننا إن فعلنا ذلك فإننا نعتبر أن ’جوعان‘ هو نفس معنى ’جوعان بعض الشيء‘، لكنهما في الحقيقة ليسا متساويان. التعبير ’جوعان‘ = ’جوعان‘ فقط لا غير! فكيف إذاً ينطبق قانون التفكير الثاني على هذه الحالة؟ إنه ينطبق بكل تأكيد لأنه لا يوجد من يمكنه أن يكون ’جوعاناً بعض الشيء‘ وأيضاً ’ليس جوعاناً بعض الشيء‘.

الحد الأدنى من الأشياء المتمايزة

أسأل نفسك هذا السؤال: ”ما هو الحد الأدنى من الأشياء المتمايزة (التي تختلف عن بعضها) الذي يتحتم وجوده لتفسير التنوع في الكون“؟ من الواضح أنه إن لم يكن هناك شيء موجود أصلاً، فإن التنوع لن يكون موجوداً بالتبعية، ولن يكون هناك وجود لأي كيان، ولو كان هناك شيء (كيان أو حالة) واحد فقط في الوجود فهل هذا كاف لتفسير التنوع؟ لو أعطيتك قالباً واحداً من الطوب وطلبت منك أن تبني منه شيئاً بدون أن تغيره بأي طريقة، فهل سيمكنك أن تبني منه أي شيء على الإطلاق بخلاف هذا القالب من الطوب؟! قالب واحد فقط في حالة واحدة فقط لا يمكنه أن ينتج تنوعاً، ولكن إذا كان من المسموح أن تغير حالة هذا القالب (عن طريق تقطيعه مثلاً إلى قطع أصغر) فحينئذ يمكنك أن تصنع شيئاً من هذا القالب بخلاف القالب نفسه، أو إذا أعطيتك أكثر من قالب، فحينئذ أيضاً سيمكنك أن تصنع شيئاً منها بخلاف القالب الواحد، حتى وإن تركتها على حالتها (أي لم تقطعها)، ولذلك فإن اثنين هو الحد الأدنى للكيانات أو الأشياء المتمايزة التي يتحتم وجودها لتفسير وجودك أنت شخصياً. لماذا؟

أنت موجود في هذه اللحظة وتفكر في أفكار متمايزة. لم يكن هذا ممكناً إذا لم يكن هناك على الأقل شيئان أو حالتان مختلفتان. إذا كانت هذه الكلمات التي تقرأها ليست هي هذه الكلمات التي تقرأها، فإن هناك كيان واحد هو ما تقرؤه، وإذا كنت تقرأ هذا الكيان وأيضاً لا تقرأ هذا الكيان، فإن فعل القراءة نفسه يفقد معناه ويصير عدماً، وإذا كنت تفعل نشاطاً ما وأيضاً لا تفعل هذا النشاط، فإن معنى ’الفعل‘ نفسه يصبح فارغاً وعدماً هو الآخر، وإذا كنت توجد ولست توجد أيضاً، فإن وجودك غير ذي معنى وهو عدم، وكذلك وجود كل فكرة تفكر فيها، ولكن هذا كذباً، لأنك تفكر في عدد من الأفكار المتمايزة الآن! وبناء عليه، فإن لا شيء يمكن أن يكون ولا يكون، أو يوجد على حالة ونقيضها مجتمعين، لأن هذا سيؤدي إلى تقليص كل الأشياء إلى كيان واحد، وهو ما يتعارض مع وجودنا نحن أنفسنا.

أي حرف من الحروف الإنجليزية قد يكون ’A‘ أو ’ليس A‘، ولكنه لا يمكن أن يكون ’A‘ و’ليس A‘.

وبهذا المفهوم فإن المعنى المقصود لكلمة ’ليس‘ المستخدمة هنا لا يعبر عن وجود شيئين اثنين فقط لا ينقسمان إلى كيانات أصغر أو أبسط (وهما ’س‘ و’ليس س‘)، ولكنه يعبر عن أن ’ليس س‘ هو كل شيء يتمايز عن ’س‘، ويمكن أن يكون هناك مليون من الكيانات أو الحالات المتمايزة، وواحدة منها فقط نعبر عنها بالرمز ’س‘، فيكون التعبير ’ليس س‘ هو كل ما تبقى، وعدده ٩٩٩٩٩٩ كياناً أو حالة تختلف عن الكيان أو الحالة ’س‘، وأي من هذه الكيانات أو الحالات هو ’ليس س‘، فالتعبير ’ليس س‘ لا يعني أن هناك كيان واحد أو حالة واحدة فقط بخلاف ’س‘، ولكنه يعني أن هناك مجموعة من الكيانات أو الحالات بخلاف ’س‘. ولو كان قانون عدم التناقض غير صحيحاً، فإن ’س‘ لن يكون مختلفاً عن واحد على الأقل من الكيانات الأخرى التي عددها ٩٩٩٩٩٩، ولهذا فإنه من غير الممكن أن يوجد أكثر من ٩٩٩٩٩٩ كياناً أو حالة مختلفة، وليس مليوناً! لو أن قانون عدم التناقض غير صحيح، فإن تكرار هذا لكل من الكيانات أو الحالات المتبقية سيؤدي في النهاية إلى تقليص كل ما هو موجود إلى كيان واحد أو حالة واحدة.

قانون عدم التناقض يعني بوجود كيانين أو أكثر أو حالتين أو أكثر تختلف عن بعضها.

الواقع مقارنة بالحقيقة

لا شيء يمكن أن يوجد ولا يوجد أو يكون ولا يكون، لكن من الممكن لبعض من عندهم خلفية في علم الفيزياء أن يجادلوا بأن عدم اليقين يدخل في بناء الكون نفسه، وبناء عليه فكيف يمكن أن نكون متيقنين أن الشيء لا يمكن أن يكون ولا يكون؟ هناك فرقاً هاماً يجب إيضاحه هنا، وهو الفرق بين الواقع وبين الحقيقة، وإن فشلنا في التفرقة بين هذين المفهومين فإننا سنخرق قانون الهوية ونصير عرضة للالتباس وللوقوع في الخطأ. النقاش التالي يختص بالمعنى الذي أعطيه أنا لكلمة ’الواقع‘ ولكلمة ’الحقيقة‘، ولا يهم ماذا تطلق عليهما من أسماء ما دام المعنى نفسه واضحاً ولا يتغير في السياق الواحد.

تخيل أن صندوقاً مغلقاً قُدِّم إليك بشرط ألا تفتحه أو تفحصه بأي شكل من الأشكال، وأنك سؤلت عما إذا كان الصندوق ’فارغاً‘ أم ’ليس فارغاً‘، ماذا ستكون إجابتك؟ قد تكون إجابتك ”لا أعرف“ أو قد تكون ”ربما كان فارغاً أو غير فارغ“، وفي الحقيقة فإن الصندوق إما فارغ أو غير فارغ، لكن ليس الاثنان معاً. فماذا إذا سمح لك أن تحمل الصندوق في يديك وتفحصه بدون فتحه، مثلاً عن طريق هز الصندوق لمحاولة معرفة المزيد عما بداخله؟ حينئذ ستبدأ في تكوين أفكار عما بداخل الصندوق كمّاً وكيفاً، فإذا حملته فوجدت أنه خفيف إلى درجة كبيرة، وهززته فوجدت أنه الهز لا يحدث صوتاً أو تأثيراً ملموساً، فربما تستنتج أن الصندوق فارغ، وهو ما لا يخالف العقل على ما يبدو، ولكن إذا كان الصندوق مملوءًا برغوة البوليستيرين (Polystyrene foam)، وهي نوع خفيف جداً من البلاستيك، أو بغاز سادس فلوريد الكبريت (Sulfur hexafluoride)، وهو غاز أثقل كثيراً من الهواء، فإن الصندوق حينئذ سيكون ’ليس فارغاً‘! ما تعرفه عن محتوى الصندوق ليس هو بالضرورة المحتوى الحقيقي للصندوق. فإذا سُمِح لك أن تفتح الصندوق وتفحص محتواه، فإنك ستتمكن من جمع المزيد من المعلومات عن المحتوى، مما قد يؤدي إلى تغير فكرتك عن محتوى الصندوق، لكن إذا كان الصندوق مملوءًا بغاز سادس فلوريد الكبريت فمن الممكن ألا تلحظ وجوده مطلقاً لأن هذا الغاز عديم اللون والرائحة. في جدال فلسفي أكثر تعقيداً، يمكن الجدل بأن لا شيء سيعطيك يقيناً مؤكداً عن محتوى الصندوق الحقيقي.

عدم اليقين مرتبط بمعرفتنا عن الأشياء وليس بِكُنْه الأشياء نفسها وكينونتها.

Optical Illusion
أنظر في اتجاه عمودي على الشاشة إلى أجزاء مختلفة من الصورة، وستجد أن الحبوب ستبدو وكأنها تتحرك. هذا الخداع البصري سيختفي إذا نظرت إلى الشاشة بزاوية.

لا يهم ما تعرفه أو ما تظن أنك تعرفه عن محتوى الصندوق، فما دام الصندوق مغلقاً ستظل محتوياته كما هي، وكل ما هو ليس من محتوياته سيظل كذلك أيضاً، فإذا كان يحتوي على ’هواء‘ فقط، فإنه ليس ’لا يحتوي على هواء‘، وإذا كان يحتوي على ’قطعة صماء من الخشب‘ فإنه ليس ’لا يحتوي على قطعة صماء من الخشب‘، وإذا كان لا يحتوي على ’ألعاب‘، فإنه ليس ’يحتوي على ألعاب‘. الحقيقة مطلقة وثابتة. المقصود بكلمة ’مطلقة‘ أن الحقيقة كائنة بغض النظر عن أي شيء آخر، حتى وجودنا نفسه. إذا كان من الحقيقي أن الكون وُجِد قبل الجنس البشري، فإن هذه هي الحقيقة المطلقة حتى ولو لم يكن البشر موجودين ليعرفوا هذه الحقيقة. كل النظريات الرياضية كانت موجودة قبل أن نعرفها، ولكننا بمنتهى البساطة لم نكن نعرفها بعد، فلم يكن هناك وقت لم يكن فيه لوغاريتم الواحد الصحيح صفراً، حتى قبل أن نعرف فكرة اللوغاريتم! المقصود بكلمة ’ثابتة‘ أن الحقيقة لا تتغير، فالحقيقة كانت وستظل حقيقة، وما بخلافها كان وسيظل ليس حقيقة. الحقيقة أيضاً واحدة، فلا توجد عدة أشكال أو أنواع من الحقيقة تختلف عن بعضها البعض. هناك حقيقة واحدة مركبة كما سنناقش لاحقاً.

الواقع أمر مختلف. واقعنا هو مجرد إجماعنا على ما نظن أنه حقيقة. الواقع مرتبط بنا، وليس كائناً مطلقاً كالحقيقة، وكل ما هو واقعي بالنسبة لنا يعتمد على وجودنا وعلى معرفتنا، والواقع يتغير مع تغير المعرفة، ففي الأزمنة السحيقة كان الناس يعتقدون أن الكائنات التي نسميها أسطورية الآن (مثل البيجاسوس Pegasus واليونيكورن unicorns) هي كائنات واقعية تماماً! البعض منا حتى يومنا هذا يؤمن تمام الإيمان بأن الحسد (العين الشريرة Evil eye) واقع لا خلاف عليه، بينما البعض الآخر يعتقد أن الحسد نوع من الخرافة. ليس هذا فقط، بل في مجال العلم أيضاً نجد واقعاً يختلف باختلاف المعرفة، ففكرة وجود الأثير (Luminiferous aether) كانت واقعاً حتى أواخر القرن التاسع عشر، وبعض الأمراض مثل الكوليرا (Cholera) والطاعون (Plague) كان يظن أن سببها هو الميازما (Miasma)، وهي الهواء الملوث، وكذلك كان مرض الملاريا (Malaria) الذي يعني اسمه باللاتينية حرفياً ’الهواء السيء‘، وإلى وقت ليس ببعيد كان الواقع العلمي أن الذرة لا يمكن تقسيمها إلى ما هو أصغر من الإلكترونات (Electrons) والبروتونات (Protons) والنيوترونات (Neutrons)، ولكن الواقع الآن أن البروتونات والنيوترونات تتكون من جسيمات أصغر تسمى الكواركات (Quarks). في كل مرحلة من مراحل التاريخ كان الواقع يختلف بحسب المعرفة والمعتقدات الشائعة.

dichromatic_vision.jpg
هكذا (بالأسفل) يرى مريض عمى الألوان التفاح (بالأعلى).

لهذا فأنا أفرق بوضوح بين الحقيقة التي وجودها مطلق وثابت، وبين واقعنا الذي يعتمد بشكل كبير على معرفتنا ومحدود بقدرتنا على الملاحظة، فكل ما نعرفه عن العالم الماضي تحقق من خلال الملاحظة، والملاحظة بدورها تعتمد على الحواس والتقنيات، لكن البوابة النهائية والأساسية إلى عقولنا هي الحواس، وكل ما لا تدركه الحواس هو بالضرورة غير معلوم لنا على الإطلاق. هذا لا يعني أن ما ندركه بالحواس خطأ، وقد يكون جزءًا من الحقيقة المطلقة، لكنه لا يثبت أنه حقيقة مطلقة، ولا ينفي ذلك أيضاً، فنحن ببساطة لا نعرف! وهذا هو سبب ومصدر عدم اليقين.

واقعنا أيضاً يتغير من شخص لآخر، فمثلاً مريض عمى الألوان (Color blindness)—كما توضح الصورة—يرى التفاحة الحمراء والتفاحة الخضراء كأنهما تقريباً نفس اللون، أي أن واقع هذا المريض أن اللون ’الأحمر‘ ٍمساو للون ’الأخضر‘! هذا الواقع الخاص به لا يغير من حقيقة أن اللونين مختلفان وأنهما يمثلان طولين موجيين مختلفين للضوء (على قدر معرفتنا).

قانون عدم التناقض يعني بالحقيقة وليس بواقعنا، ففي عالم الأفكار لا شيء يمكن أن يكون ولا يكون معاً، لكن الكثير من الأشياء قد تكون مجهولة لنا، أي أننا ليس عندنا أدنى فكرة عما إذا كانت هذه الأشياء حقيقة أم لا، ولكن من النقاش السابق نعلم أن الأشياء لا يمكن أن تكون ولا تكون. هوية الأشياء المادية أو كينونتها تشبه محتوى الصندوق المغلق في المثال أعلاه، وما نعرفه عن المحتوى يختلف ويتغير لكنه لا يغير محتوى الصندوق نفسه.

اللاثنائية...؟!

جادل البعض أن شيئاً يمكن أن يكون حقيقةً ونفيه أو نقيضه يمكن أيضاً أن يكون حقيقةً، فيما يعرف باللاثنائية (Dialetheism) وهي مشتقة من الكلمة الإغريقية διαλεθεια التي تعني ذلك. الفلسفة اللاثنائية نجدها واضحة في بعض أديان الشرق الأقصى، في مقابل الفلسفة الثنائية (Dualism) التي تظهر بوضوح في الفلسفة والأديان الغربية، لكن المفاهيم الأساسية خلف هذه الفلسفات ليست مكافِئة لقانون عدم التناقض. الثنائية ترجح أن الوجود بأسره يقع في أحد العالمين: الله أو المادة، غير المحسوس والمحسوس، إلخ... اللاثنائية ترجح أن الوجود له أكثر من عالمين أو أكثر من نوعين من الكيانات. قانون عدم التناقض لا يتحدث عن وصف أو تعديد عوالم الوجود، لكن عن تقرير أن هناك شيئين مختلفين أو حالتين مختلفتين على الأقل في الوجود. بناء على هذا الفهم، فالله لا يمكن أن يكون موجوداً وغير موجود معاً، ولو كان موجوداً فهو لا بد أنه يختلف عن الأشياء الأخرى الموجودة، فلا يوجد في قانون عدم التناقض ما يضع حداً أقصى لعدد العوالم في الوجود أو عدد الأشياء أو الحالات أمختلفة التي يمكن أن توجد في هذه العوالم.

اللاثنائية تستخدم أحياناً لتفسير جمل مثل ”عندي يقين بكل ما أنا غير متيقن منه“، فمثل هذه الجملة ترجح انني يمكن أن أكون متيقناً من شيء وغير متيقن أيضاً في نفس السياق، ولو قبلنا هذا المعنى فإن قانون عدم التناقض يسقط بالتبعية، لكن دعونا نفحص هذه الجملة عن كثب. فلنرمز للأشياء التي أنا غير متيقن منها بالرمز ’غ‘، وبالتالي يمكن استبدال العبارة ”كل ما أنا غير متيقن منه“ بالرمز ’غ‘، وعليه يمكن صياغة الجملة في صورة ”عندي يقين بـ ’غ‘“، فهل عندي يقين أم ليس عندي يقين؟! أذكر القارئ بقانون الهوية. ماذا تعني كلمة ’متيقن‘ أو ’يقين‘ في العبارتين؟ المعنى في عبارة ”الأشياء التي أنا غير متيقن منها“ هو ”الأشياء التي لا أعرف عنها ما يكفي لتكوين رأي“، أما المعنى في عبارة ”عندي يقين بـ ’غ‘“ فهو ”عندي ما يكفي من المعلومات لتعديد كل ما هو ’غ‘“، أي أن اليقين في العبارتين ليس له نفس المعنى، ويمكن صياغة الجملة الأصلية في صورة ”عندي من المعلومات ما يكفي لتعديد كل الأشياء التي لا أعرف عنها ما يكفي لتكوين رأي“. المفارقة التي كانت تبدو لنا أولاً قد اختفت!

قبول اللاثنائية يؤدي إلى قبول مبدأ الانفجار (Principle of explosion) الذي من خلاله يمكن إثبات أي شيء وكل شيء. على سبيل المثال، في جملة ”إذا كان معي تفاحة واحدة فإن معي تفاحتين“ فإن عبارة ’معي تفاحتان‘ تقع بالتأكيد في نطاق ما تعنيه عبارة النفي ’ليس معي تفاحة واحدة‘، لأن هذه العبارة تعني أنني قد يكون معي أي عدد من التفاحات بخلاف الواحد، ولو قبلنا أن عبارة ’معي تفاحة واحدة‘ حقيقة وكذلك عبارة ’معي تفاحتان‘، فإن الجملة الشرطية ”إذا كان معي تفاحة واحدة فإن معي تفاحتين“ تصير حقيقية هي الأخرى ومن ثم مقبولة، وفي هذه الحالة سأعطيك تفاحة منهما ويتبقى معي تفاحة واحدة، وإذا كان معي تفاحة واحدة فإن معي تفاحتين، وهكذا! كلام غير معقول بالمرة! أشجع القارئ على التفكير في أمثلة أخرى توضح مبدأ الانفجار، واطلق لعنانك السراح، فليس هناك حدود مع مبدأ الانفجار.

liar's paradox
مفارقة الكذاب

كمثال آخر على الاحتكام إلى مفهوم اللاثنائية نأخذ ما يعرف بمفارقة الكذاب (Liar's paradox)، وهي ببساطة كالآتي: إذا قال شخص ما لك ”أنا أكذب عليك“ فهل هو يقول الحقيقة أم لا؟ إذا كان يقول الحقيقة، فهو يكذب كما يقول وبالتالي فهو لا يقول الحقيقة، وإذا كان لا يقول الحقيقة فجملته كاذبة وبالتالي فهو يقول الحقيقة!! فهل يمكن إذاً أن يكون مثل هذا الشخص يقول الحقيقة ولا يقول الحقيقة في نفس الوقت؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا خرق واضح لمبدأ عدم التناقض.

نظرية المعنى للحقيقة (Semantic theory of truth) التي بنيت على أعمال كورت جودل (Kurt Gödel) وألفريد تارسكي (Alfred Tarski) تقول لنا أن المعنى هو ما يهم عندما ننظر إلى الصدق أو الكذب، وليس مجرد الكلمات، فكل لغة لا تملك في داخلها الأدوات التي يمكن أن تعبر بها عن الصدق والكذب في كل الجمل التي تصاغ في هذه اللغة، وهناك حاجة ضرورية إلى ’لغة مُعَرِّفَة‘ (Metalanguage)، أي لغة تعبر عن اللغة، للتعبير عن الصدق والكذب في اللغة الأصلية، ولهذا فأن أي لغة طبيعية ليست قادرة من نفسها وباستخدام أدواتها الداخلية على التعبير عن صدق أو كذب جملها بدون غموض. هذا يظهر بوضوح في مفارقة الكذاب. محاولة التعبير بجملة عن شيء وعن صدق أو كذب هذه الجملة في نفس الوقت يؤدي إلى غموض، فهل عندما يقول شخص ما ”أنا أكذب“ فهو يعني أنه يكذب بشأن الجملة التي يقولها أم أنه يكذب بشأن شيء آخر بخلاف الجملة التي يقولها؟ إذا كان يقصد أن يخبرنا بكذب أو صدق الجملة التي يقولها فالغموض نتيجة طبيعية بسبب النقص الكامن في اللغة نفسها والذي يمنعها من مثل هذا التعبير، وهذا النقص مرتبط بنظريتي النقصان لجودل (Gödel's incompleteness theorems)، فهناك أشياء هي ببساطة مستحيلة الحدوث! وإذا كان القائل يقصد أن يخبرنا عن شيء آخر بخلاف الجملة التي يقولها فإن المفارقة تختفي، لأن المعنى هو ما يهم. لا يوجد على الإطلاق ما يستدعي أي مفهوم كاللاثنائية لتفسير مفارقة الكذاب.

المعنى هو أهم شيء عند تطبيق قوانين التفكير، لأنها تختص بالأفكار وليس بشيء آخر.

في الرياضيات

أحياناً في مجال الرياضيات نثبت شيئاً عن طريق إيضاح التناقض الذي ينتج من نفيه، فعلى سبيل المثال أحد إثباتات أن الجذر التربيعي للعدد 2 ليس عدداً نسبياً يفترض أن الجذر التربيعي للعدد 2 هو عدد نسبي في صورة \(a/b\) بحيث أن \(a\) و \(b\) عددان صحيحان، وأن \(a/b\) كسر غير قابل للتبسيط, بمعنى أنه لا توجد عوامل مشتركة يقبل عليها القسمة كل من \(a\) و \(b\). تذكر هذه النقطة وسنذكرها لاحقاً. لو كانت هناك أي عوامل مشتركة، فإننا يمكن أن نلغيها عن طريق قسمة كل من البسط والمقام في الكسر على العوامل المشتركة، ولهذا فإننا يمكن أن نفترض أن \(a/b=\sqrt{2}\)، وهو ما يعني أن \(a^2=2b^2\). هذا يؤدي بالضرورة إلى أن \(a^2\) عدد زوجيلأنه حاصل ضرب العدد 2 في عدد صحيح آخر. ليس هناك عدد فردي يمكن تربيعه ليعطينا عدداً زوجياً، وبالتالي فإن \(a\) نفسه عدد زوجي، ويمكن التعبير عنه في صورة ضرب العدد 2 في عدد صحيح آخر \(k\). عند التعويض باستخدام \(a=2k\) في المعادلة الأصلية نجد أن \(4k^2=2b^2\) وهو ما يختصر إلى \(2k^2=b^2\). بصورة مماثلة لما استنتجناه عن \(a\)، يمكن أن نستنتج أن \(b\) هو أيضاً عدد زوجي. فإذا كان كل من \(a\) و \(b\) أعداداً زوجية، فإن كل منهما يقبل القسمة على 2. قارن هذا بالنقطة التي طلبنا تذكرها سابقاً. بما أن \(a\) و \(b\) لا يمكن أن يكونا قابلين للقسمة على 2 وفي نفس الوقت ليس بينهما قواسم مشتركة، فإنه لا يوجد عدد نسبي في صورة \(a/b=\sqrt{2}\).

نرى مثل هذه الطرق في الإثبات في الرياضيات، وأحياناً تكون هي الطريقة الوحيدة لإثبات شيء ما، أو على الأقل هي الطريقة الوحيدة التي نعرفها.

فلنأخذ المثال التالي:
إذا كان \(a\) يقبل القسمة على 210 وكان \(14a\) لا يقبل القسمة على 3، فما هي القيم الممكنة للمتغير \(a\)?
نستخدم التعبير الرياضي \(b \mid a\) للدلالة على أن \(b\) من قواسم \(a\) أو أن \(a\) يقبل القسمة على \(b\). فإذا كان \(210 \mid a\) و \(3 \mid 210\)، فإنه ينتج بالتبعية أن \(3 \mid a\). وإذا كان \(3 \nmid 14a\)فإن \(3 \nmid 14\) وهو حقيقي، و \(3 \nmid a\). لا يوجد أي عدد بحيث أن \(3 \mid a\) و \(3 \nmid a\). لذلك، لا توجد قيمة للمتغير \(a\) تحقيق الشروط السابقة.
عدم التفكير في قانون عدم التناقض في مسائل مثل السابقة يمكن أن يجعلها تبدو في غاية الصعوبة أو غير قابلة للحل.

ثالثاً: قانون الوسط المرفوع

إما ’س‘ أو ’ليس س‘
إما أن الشيء يكون أو لا يكون. لا يوجد بديل ’وسط‘!

هل هذا يبدو ’أبيض وأسود‘ بدرجة غير مقبولة؟! هل كل شيء في الوجود فعلاً يقع في مجموعة من هاتين المجموعتين؟ هل يمكن أن نختصر كل شيء في الوجود لمثل هذا التفريع الثنائي؟ مجدداً أؤكد على أن كل شيء يعتمد على معنى ما تفهمه. أوضحت في النقاش السابق عن قانون عدم التناقض أنه لا يوجد حد أقصى لعدد الكيانات أو الحالات المتمايزة التي يمكن أن توجد، لكن قانون الوسط المرفوع يبدو كأنه يضع حداً أقصى هو العدد 2. فهل هذا صحيح؟! لا.

قانون الوسط المرفوع يضع كل شيء بخلاف ’س‘ في المجموعة ’ليس س‘، ولو وجد مليون كياناً متمايزاً أو حالة متمايزة فإن واحداً منها فقط هو ’س‘ وهو يختلف عن الباقين. ذكرت سابقاً اننا سنناقش معنى الحقيقة المركبة، ونناقشه فيما يلي.

الحقيقة المركبة

الحقيقة ليست شيئاً بسيطة لا يمكن تقسيمة، بل يجب اعتبارها على أنها مجموعة متماسكة من أشياء صغيرة لا يمكن تقسيمة، وكل من هذه الأشياء الصغير هو بالضرورة حقيقي بشكل مطلق أيضاً، ونفي أو نقيض كل من هذه الأشياء هو بالضرورة غير حقيقي بشكل مطلقة أيضاً. أجزاء الحقيقة تتشابك مع بعضها وتكمل بعضها مثل قطع الألغاز (Puzzles)، فكل منها يكمل الآخر بطريقة مترابطة (Coherent)، وهذا يعني أننا لن نجد قطعة من الحقيقة تناقض قطعة أخرى، وأحد أسباب الالتباس أننا لا نملك كل قطع الحقيقة، أي اننا لا نعرف كل الحقيقة المطلقة.

فلنَعُد إلى مثال الصندوق المغلق. تخيل أن الصندوق يحتوي على 4 أظرف و 3 من مشابك الورق، فيكون بالضرورة من غير الحقيقي أن الصندوق لا يحتوي على 4 أظرف و 3 مشابك ورق. فماذا عن الجملة ”الصندوق يحتوي على 4 أظرف“؟ أليست هذه جملة حقيقية؟! ماذا عن الجملة ”الصندوق يحتوي على 3 مشابك ورق“؟ أليست هي أيضاً جملة حقيقية؟! أو الجملة ”الصندوق يحتوي على 3 أظرف ومشبك ورق“؟ هي أيضاً حقيقية! فكيف أنه لا يوجد بديل وسط بين الجملتين الأوليين؟

الخدعة تكمن في أن قانون الوسط المرفوع يتحدث عن جزء محدد بوضوح من الحقيقة المركبة، أو أنه يتحدث عن الحقيقة المركبة كلها بمجملها، ولكنه بكل تأكيد لا يتحدث عن تعريف فضفاض لما يمكن أن تكون عليه الحقيقة. إذا كان السؤال عن كل محتويات الصندوق فإن الجملة ”يحتوي على 4 أظرف“ تكون جملة خاطئة! أما إذا كان السؤال عن أحد محتويات الصندوق فإن الإجابة ”يحتوي على مشبك ورق“ تكون حقيقية. كل الحقيقة في هذا المثال تعني كل محتويات الصندوق، أما الحقيقة الجزئية في هذا المثال فتعني أن الصندوق يحتوي على الأقل على ظرف واحد وعلى الأكثر على 4 أظرف، و/أو يحتوي على الأقل على مشبك ورق واحد وعلى الأكثر على 3 مشابك ورق. أي تركيبة من هذه هي حقيقة جزئية، وبالتالي فإن الإجابة ”يحتوي على ظرفين و 3 مشابك ورق“ ستكون صحيحة. فماذا هي الحقيقة الجزئية في هذه الحالة بالضبط؟ التعبير عنها طويل، وهي كالآتي:

الصندوق يحتوي على ظرف واحد، أو ظرفين، أو 3 أظرف، أو 4 أظرف، أو ظرف واحد ومشبك ورق واحد، أو ظرف واحد ومشبكي ورق، أو ظرف واحد و 3 مشابك ورق، أو ظرفين ومشبك ورق واحد، أو ظرفين ومشبكي ورق، أو ظرفين و 3 مشابك ورق، أو 3 أظرف ومشبك ورق واحد، أو 3 أظرف ومشبكي ورق، أو 3 أظرف و 3 مشابك ورق، أو 4 أظرف ومشبك ورق واحد، أو 4 أظرف ومشبكي ورق، أو 4 أظرف و 3 مشابك ورق، أو مشبك ورق واحد، أو مشبكي ورق، أو 3 مشابك ورق.

الحقيقة مركبة ومعقدة

فإما أن يكون أي من الإجابات السابقة حقيقياً، أو يكون ولا واحدة منها حقيقياً، فلا يوجد حل وسط. هذا المثال يوضح كيف أن الحقيقة يمكن أن تكون معقدة بشكل يفوق التصور، فنحن نتحدث عن صندوق فيه 7 أشياء وخرجنا بعدد 19 إجابة ممكنة مختلفة للحقيقة الجزئية، والأشياء من حولنا في الوجود يبدو لنا أنها تتكون من أكثر من 7 أجزاء، وتتفاعل مع بعضها البعض بأكثر من 7 طرق، ولذلك فإن الحقيقة معقدة بما يفوق التصور، وربما أيضاً تكون لانهائية التعقيد.

الحقيقة ليست كيان غير قابل للتجزيء، بل هي معقدة جداً.

إنما يبدو لنا أن هناك حل وسط بما يخرق قانون الوسط المرفوع لأننا لا نستخدم تعريفات دقيقة، ومن أجل هذا السبب (جزئياً على الأقل) فإن الشاهد في المحاكم الغربية يقسم أن يقول ”الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة“ (The truth, all the truth, and nothing but the truth)، فالحقيقة الجزئية هي أيضاً حقيقة، لكننا نريد أن نعرف كل الحقيقة.

وبالعودة إلى مثال الصندوق المغلق، فإذا فهمنا أن جملة ”الصندوق يحتوي على ظرفين“ تعني أن الصندوق يحتوي فقط على ظرفين، فإن الجملة تكون خاطئة، لأننا حينئذ نفهمها على أنها كل الحقيقة وليست الحقيقة الجزئية. أما إذا فهمناها على أنها الحقيقة الجزئية، فإننا سنفهمها على أننا يمكن أن نجد ظرفين داخل الصندوق، وفي هذه الحالة فإننا إما ”يمكن أن نجد ظرفين داخل الصندوق“ أو ”لا يمكن أن نجد ظرفين داخل الصندوق“ بدون بديل وسط، فالجملة لا تعني أن هناك حد أقصى لما يمكن أن نجده داخل الصندوق هو الظرفان، وإنما تعني أن الظرفين بعض محتويات الصندوق بدون تحديد حد أقصى لمحتوياته، فإذا احتوى الصندوق على ظرفين أو أكثر، أو حتى إذا احتوى على ظرفين مع بقية الكون بخلاف الظرفين، فإن هذه الجملة ستكون حقيقية ونقيضها سيكون غير حقيقي. كل شيء مرجعه إلى المعنى. كل شيء مرتبط بقانون الهوية. اعتبار مفاهيم أو أفكار متمايزة كأنها واحدة يؤدي إلى الالتباس والخطأ.

الانفصال الحصري

عندما نقول أن الشيء إما ’س‘ أو ’ليس س‘ فإننا نعني بكلمة ’أو‘ المعنى الذي يعرف في المنطق باسم الحكم المنفصل (Exclusive or)، وهو ما يتطلب أن يكون الشيء أو لا يكون طبقاً للمعنى المشروح عالياً لقانون عدم التناقض، أي أنه إذا حقّ أن شيئاً يكون، فهو خطأ أنه لا يكون، وإذا حقّ أن شيئاً لا يكون، فهو خطأ أنه يكون. استخدام كلمة ’أو‘ في اللغة الطبيعية غامض، فإذا سألت أحداً عما يمكن أن تأكله فأجاب ”بيض أو جبن أو مربى أو سجق“ فإنه غالباً ما يعني ليس أنك لا يمكن أن تأكل إلا واحدة منها فقط، ولكنه يعطيك اختيارات يمكنك أن تأخذها كلها إن أردت، فيمكن أن تأكل بيضاً وجبناً ومربى وسجقاً معاً، وفي المقابل، فإنك إذا سألت أحداً عن كيفية الوصول إلى عنوان معين فأجاب ”بالأتوبيس أو بالقطار“ فإنه غالباً ما يعني أنك يجب أن تختار واحداً منهما فقط: إما الأتوبيس أو القطار، ولكنك لا يمكن أن تختار كليهما معاً. هذا المعنى الأخير لكلمة ’أو‘ هو معنى الحكم المنفصل المقصود في تعريف قانون الوسط المرفوع.

التفرع الثنائي في حياتنا اليومية

قانون الوسط المرفوع والتفرع الثنائي الذي يتضمنه مفيد في الحياة اليومية، فلو فرضنا أنك تختار من مجموعة من المتقدمين لوظيفة ما، وكان عدد المتقدمين صغيراً نسبياً، فإن مهمة اختيار الشخص المناسب قد لا تكون صعبة، أما إذا كان العدد كبيراً، فإنه سيكون من الصعب جداً مقارنتهم ببعضهم البعض مجتمعين، ومعظم الناس سيتصفحون طلبات التقديم واحداً تلو الآخر، وسيعزلون كل من هو ليس مناسباً للوظيفة، وبهذا فإنهم يقسمون المتقدمين إلى ’مناسب للوظيفة‘ و’غير مناسب للوظيفة‘ بدون اختيار ثالث، وعندئذ فإنهم يمكنهم التركيز على هؤلاء المناسبين للوظيفة ويهملون تماماً كل من هو ليس مناسباً لها، وبنفس الطريقة يمكنهم إجراء عملية التفرع الثنائي هذه فيقسمونهم إلى ’ملفت للنظر‘ و’ليس ملفتاً للنظر‘ بدون اختيار ثالث، ثم يقصرون اختياراتهم على كل من هو ملفت للنظر، وهكذا.

عملية الاختيار عن طريق التفرع الثنائي هذه منتشرة جداً، فلو أن أحدنا يبحث عن وظيفة في الإعلانات المبوبة في الجريدة مثلاً، فإنه سيجري مسحاً سريعاً للوظائف المعروضة ويضع علامة على كل ما هو ’مناسب‘، وعندما ينتهي من ذلك فإنه سيقصر مقارنته ومحاولات التقديم على كل ما هو مناسب فقط، وبالطبع إذا فشل في الحصول على أي من هذه الوظائف فقد يغير الخصائص التي بناء عليها قسم الوظائف إلى ’مناسب‘ و’غير مناسب‘، ولكن تغيير الخصائص يؤدي إلى تغيير المعنى، وتكون عملية الاختيار الثانية من الوظائف ’المناسبة‘ ليست هي عملية الاختيار الأولى لأن معنى كلمة ’مناسب‘ تغير.

Problem-solving flowchart
رسم فكاهي ثنائي التفرع لكيفية حل المشاكل

أقل عدد من الاختيارات الذي يسمح بوجود اختيارات حقيقية هو العدد 2. هذا يؤدي إلى تبسيط الأمور بشكل كبير، حتى لو كان معنى هذا تقليص عدد الاختيارات المتاحة عن طريق تجميعها في مجموعتين مختلفتين في الأولوية أو الأفضلية أو أي شيء آخر، فإن هذا يساعد كثيراً على تسهيل عملية الاختيار. هذا يوضح مرة أخرى العدد الأدنى من الكيانات أو الحالات اللازمة للتنوع، وهو ما ناقشناه من قبل. عن طريق تقليص الاختيارات إلى الحد الأدنى، فإننا نسهل الأمور على أنفسنا.

في العديد من الأحوال نصل إلى الاستنتاجات المنطقية عن طريق هذا القانون من قوانين التفكير، فعلى سبيل المثال إذا كان شخص ما محبوساً في غرفة لها بابان فقط، وكنت تقف حارساً على أحد البابين ولم تَرَ أي شخص يخرج من الغرفة، ثم دخلت الغرفة فلم تجد المحبوس داخلها، فإنك تستنتج أنه حتماً خرج من من الباب الآخر. لأنه لم يخرج من الباب الذي تحرسه، ولأنه لا يوجد خيار ثالث. هذا النوع من الاستنتاجات يسمى ’برهان الخُلْف‘ (Reductio ad absurdum) وهو باللاتينية يعني ’التقليص إلى اللامعقول‘، ففي المثال السابق من اللامعقول أن المحبوس خرج من الباب الذي تحرسه بدون أن تراه، وفي جوهر الأمر فإنك تفكر في هذا الموقف في صورة خيار بين إما ”المحبوس خرج من الباب الذي أحرسه“ أو ”المحبوس خرج من الباب الآخر“ أو من أي مخرج آخر لو كان للععرف أكثر من مخرجين، وليس هناك خيار وسط ثالث، ولأنك تعلم أن المحبوس لم يخرج من الباب الذي تحرسه، فإنه حتماً خرج من الباب الآخر. مثل هذه الاستنتاجات هي استخدامات شائعة لقانون الوسط المرفوع.

مفارقة الكومة

Sorites paradox
هل إذا أخذنا حبة رمل من كومة من الرمل لا تصير كومة فيما بعد؟!

اسم مفارقة الكومة (Sorites paradox) مشتق من الكلمة اليونانية σωρητες وتعني ’كومة‘. المفارقة ببساطة تسأل السؤال الآتي: ”هل إذا أخذنا حبة رمل من كومة رمل لا تصير كومة الرمل كومة فيما بعد؟“ الإجابة الواضحة والطبيعية عند معظم الناس أن الكومة ستظل كومة وأن أخذ حبة رمل منها لن يؤثر على كونها كومة. ولكن إذا كانت كومة الرمل تتكون من مليون حبة رمل، وإذا كان أخذ حبة منها لن يؤثر على كونها كومة، فإن 999999 حبة رمل تشكل كومة رمل هي الأخرى، وأخذ حبة رمل من هذه الكومة الأخرى لن يؤثر على كونها كومة، وبالتالي فإن 999998 حبة رمل تشكل كومة رمل أيضاً، وهكذا يمكننا الأستمرار حتى نصل إلى استنتاج أن حبة واحدة من الرمل تشكل كومة رمل، وإذا كان أخذ حبة رمل من هذه الكومة لن يؤثر على كونها كومة رمل، فإن لا شيء على الإطلاق هو أيضاً كومة رمل!!

التفكير قليلاً في هذه المفارقة يجعل المرء يعتقد أنه لا بد أن يوجد شيء غير ’كومة من الرمل‘ و’ليس كومة من الرمل‘، أي أنه لا بد من وجود اختيار ثالث غيرهما، وهو ما يبدو خرقاً واضحاً لقانون الوسط المرفوع. فهل هو كذلك؟!

القانون الأول ينص على أن الشيء هو نفسه، وغموض اللغات الطبيعية يعمل عكس هذا القانون تماماً، فكومة الرمل المكونة من مليون من حبات الرمل ليست هي كومة الرمل المكونة من ألف من حبات الرمل، وأخذ حبة رمل من كومة رمل معينة قد يتركها كومة رمل كما هي، بينما أخذ حبة رمل من كومة رمل غيرها قد لا يفعل ذلك. المشكلة هنا سببها غموض اللغة الطبيعية. قوانين التفكير تتطلب دقة، واللغات الطبيعية ليست دقيقة، وهناك الكثير من الكلمات في اللغات الطبيعية هي غامضة عن عمد وهذا يجعل منها ذات كفاءة في التعبير، لأننا يمكن أن نستخدم مثل هذه الكلمات للتعبير عن كميات تقريبية بشكل غير دقيق، والأمثلة على هذه الكلمات تشمل ’بعض‘ و’حزمة‘ و’قبضة‘ و’الكثير‘ و’القليل‘، إلخ... حل هذه المفارقة لا يوجب خرق قانون الوسط المرفوع، بل يوجب الدقة في تعريف المقصود بالمصطلحات غير الدقيقة في اللغات الطبيعية.

في الرياضيات

الرياضيات عالم مثالي جداً، ففي عالم المفاهيم المجردة لا يوجد شك، وربما يوجد ما لا نعرفه، ولكن عندما نعرف شيئاً فإننا نعرفه على وجه اليقين. قانون الوسط المرفوع يختص بالأشياء التي نعرفها، لا الأشياء التي لا نعرفها. غير المعروف بالنسبة لنا هو يقيني من جهة واحدة فقط: أننا لا نعرفه! اكرر أن القانون الثالث ينص على أننا إما نعرف شيئاً ما أو لا نعرف هذا الشيء، بدون حالة وسيطة. هناك بالفعل أشياء في الرياضيات غير معروفة لنا، وهناك أيضاً بعض الأشياء التي تم إثبات أننا لن نستطيع أن نعرفها، وبالنسبة لهذا الأشياء فنحن نعرف أننا لن نعرفها! ربما يبدو هذا كمفارقة، لكنه يوضح الفرق الأساسي بين معرفة الحقيقة وبين وجود الحقيقة وكينونتها، فهما ليسا متساويين ولن يكونا كذلك.

كثيراً في الرياضيات نجد أنفسنا نصل إلى استنتاجات باعتبار حالتين متناقضتين: فإما أن تكون هذه الحالة حقيقة أو تلك الحالة حقيقية. على سبيل المثال، إما أن \(a\) يساوي الصفر أو \(a\) لا يساوي الصفر، وهناك مجال للالتباس هنا فقط إذا لم نلاحظ القانون الأول وندرك أن الحقيقة مركبة. معنى ’لا يساوي الصفر‘ ليس هو معنى ’مساوٍ للواحد الصحيح‘، فالتعبير الأول يشمل أكثر عدداً لانهائياً من الأعداد بالإضافة للواحد الصحيح.

مثال آخر أحببته هو إجابة السؤال ”هل العدد 2 أكبر من أو يساوي العدد 2؟“ إذا كانت الإجابة بنعم، فهل هذا يعني أن العدد 2 أكبر من العدد 2؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فهل هذا يعني أن العدد 2 أقل من العدد 2؟ فكر جيداً.

نحن نعلم أن \(2 \lt 2\) جملة غير حقيقية، أي أن \(2 \nless 2\) يجب أن تكون جملة حقيقية. لا توجد حالات وسط. لكن جملة \(2 \nless 2\) هي جملة مركبة تكافئ قولنا أن \(2 \ge 2\)، وهو ما يمكن تبسيطه إلى \(2 \gt 2\) أو \(2 = 2\)حيث أن الناتج الذي يمكن تحديده لمقارنة شيئين ينحصر في أن يكون أحدهما ’أكبر من الآخر‘، أو ’مساوياً للآخر‘ أو ’أصغر من الآخر‘. تحقق أي من الجمل \(2 \gt 2\) أو \(2 = 2\) يكفي لجعل الجملة \(2 \ge 2\) حقيقية، الكن الجملة \(2 \ge 2\) لا تعني أن \(2 = 2\) وكذلك \(2 \gt 2\)، إنما هي ببساطة مكافأة لجملة \(2 \nless 2\).

قد يعترض بعض الرياضيين (كالمدرسة البديهية Intuitionism) على استخدام قانون عدم التناقض وقانون الوسط المرفوع، وأيضاً بعض مجالات الرياضيات تبدو وكأنها تناقض هذين القانونين (مثل المنطق متعدد القيم Many-valued logic)، وأكرر أن المرجع الأخير هو للمعنى، فالمدرسة البديهية هي فرع من الرياضيات البنائية (Constructive mathematics) التي تتطلب أي كيان رياضي قبل قبول وجوده، ومن هذا المنظور فإن تابعي هذه المدرسة قد يعترضون على قانون الوسط المرفوع، لأن إثبات أن شيئاً لا يوجد ليس مثل إثبات أن نقيضه يوجد في رأيهم. بناء الكيان الرياضي يعني إثبات وجوده بطريقة ألجورذمية أو تقديم مثال على وجوده. مشكلة هذا المنهج أن بناء أي كيان لا بد أن يحدث من كيانات أبسط، وأن محاولة إيجاد مثال على كيان معين تعني البحث وسط عدد لانهائي من الكيانات، ولا بد أنه توجد مرحلة معينة عندها ينتهي وجود كيانات أبسط، فلا يمكننا أن نستمر في الاتجاه متناهي الصغر إلى ما لانهاية، ولا يمكننا أن نبحث في عدد لا نهائي من الكيانات الرياضية لإيجاد مثال أيضاً، بالإضافة إلى إننا في النقاش عالياً وضحنا أن قانون عدم التناقض وقانون الوسط المرفوع لا يضعان حداً أقصى على عدد الكيانات المتمايزة التي يمكن أن توجد، لكنهما فقط يصنفان الأشاء إلى مجموعتين متمايزتين غير متقاطعتين، ومن ثم فإن استحال وجود شيء ما في مجموعة منهما لكن لم يَسْتَحِلْ وجوده على الإطلاق فإنه لا بد موجود في المجموعة الأخرى. وينطبق نفس الشيء على المنطق متعدد القيم، فمعنى ’غير حقيقي‘ ليس هو بالضرورة ’خاطئ‘ لكنه قد يكون ’خاطئ‘ أو ’غير محدد‘. المثال المعطى أعلاه عن \(2 \ge 2\) يوضح ذلك.
مثال على استخدام قانون الوسط المرفوع في الرياضيات هو أحد إثباتات أن هناك عدد ما في صورة \(a^b\) بحيث أن كلاً من \(a\) و \(b\) عدد غير نسبي لكن \(a^b\) عدد نسبي.
بالنظر إلى العدد \(\sqrt{2}^\sqrt{2}\)، فإننا قد اثبتنا عالياً أن \(\sqrt{2}\) هو عدد غير نسبي، وبالتالي فإذا كان العدد \(\sqrt{2}^\sqrt{2}\) غير نسبي فإن الإثبات قد تحقق. أما إذا كان العدد \(\sqrt{2}^\sqrt{2}\) غير نسبي، فإن العدد \(\left(\sqrt{2}^\sqrt{2}\right)^\sqrt{2}=(\sqrt{2})^{(\sqrt{2} \times \sqrt{2})}=(\sqrt{2})^2=2\) هو عدد نسبي. وبناء عليه فإنه يوجد عددان غير نسبيين \(a\) و \(b\) بحيث أن \(a^b\) هو عدد نسبي.
أتباع المدرسة البديهية قد لا يقبلون مثل هذا الإثبات، لأنه يفترض أن \(\sqrt{2}^\sqrt{2}\) إما أنه نسبي أو غير نسبي بدون أي وسط بين الافتراضين لكنه لا يوضح بناء إثبات أن \(\sqrt{2}^\sqrt{2}\) هو بالفعل غير نسبي. لكن تعريف ’غير نسبي‘ ليس هو تعريف ’عدد حقيقي‘ (Real number) أو ’عدد ترنسندنتالي‘ (Transcendental number) أو ’عدد جبري‘ (Algebraic number) أو أي من هذا القبيل، لكنه ببساطة يعني كل ما هو ليس عدداً نسبياً، فأي عدد لا ينطبق عليه تعريف العدد النسبي هو في هذه المجموعة بالضرورة.

رابعاً: تشابه المتطابقات وتطابق المتشابهات

هذان القانونان إضافة حديثة نسبياً إلى قوانين التفكير الثلاثة التقليدية، وينصبان عادة إلى لايبنتس (Leibniz). باختصار، قانون تشابه المتطابقات ينص على أنه إذا كان كيانان أو حالتان متطابقين (أي أنهما هما نفس الشيء الواحد) فإنه لا توجد فروق يمكن معرفتها بينهما، وهذا القانون لا خلاف عليه، ولكن هناك تفرقة مهمة يجب توضيحها، وهي التفرقة بين ’الفروق التي يمكن معرفتها‘ و’الفروق المعروفة‘، فالأولى تشمل الثانية وليس العكس.

’س‘ و ’ص‘ متطابقان’س‘ و ’ص‘ ليسا متطابقين
فروق يمكن معرفتهالا توجدموجودة
فروق معروفةلا يمكن أن توجدممكن وجودها

التشعب الثنائي الذي ناقشناه سابقاً يساعدنا هنا. أي شيئين ’س‘ و ’ص‘ إما يعبران عن نفس الشيء الواحد (أي أنهما متطابقان) أو يعبران عن شيئين مختلفين، وهذا ما يمثله رأس الجدول السابق، والفروق التي يمكن معرفتها إما أنها موجودة أو أنها غير موجودة، وقانون تشابه المتطابقات ينص على أنه لا بد من وجود فروق واحد على الأقل يمكن معرفته في حال كون ’س‘ و ’ص‘ غير متطابقين، وهو ما يعبر عنه أول صف في الجدول تحت رأس الجدول، لكن ما هو كائن أو موجود ليس هو بالضرورة محصور في مجال ما نعرفه، وهو ما ناقشناه سابقاً، لذلك فوجود الفروق التي يمكن معرفتها ليس مكافئاً في المعنى لمعرفتنا بمثل هذه الفروق، ولو لم تكن هناك فروق يمكن معرفتها فإنه يستحيل علينا أن نلاحظ أي فروق بين الشيئين، لكن في حالة كون مثل هذه الفروق موجودة أو كائنة فإننا قد نعرفها أو لا نعرفها. هذا هو ما يمثله الصف الثاني في الجدول تحت رأس الجدول.

الفرق بين قانون تشابه المتطابقات وقانون تطابق المتشابهات هو نقطة البداية في الاستنتاج، ففي تشابه المتطابقات نبدأ بتأكيد وجود شيئين غير متطابقين، وهو ما يعبر عنه في الجدول العمود ذو الرأس الملون بالأزرق، ففي هذا العمود، لا توجد فروق يمكن معرفتها، وبالتالي يستحيل أن تكون هناك فروق معروفة. الأمر في هذه الحالة بسيط!

أما في قانون تطابق المتشابهات فالأمر يختلف كثيراً. نقطة البداية هنا هي التأكيد على اننا لا نعرف أي فروق بين شيئين أو حالتين، وهذا هو ما يمثله في الجدول الصف ذو الرأس الملون بالأحمر، ولكي نكون متيقنين من شيء ما طبقاً للجدول، فإن هذه الشيء يجب ألا يكون موجوداً في أية خانة في الجدول مطلقاً (مثل النقاش حول تشابه المتطابقات) أو أن يقع في خانة واحدة فقط لا غير. إذا كنا لا نعرف أي فروق بين شيئين، فإما أننا في خانة ’لا يمكن أن توجد‘ أو في خانة ’ممكن وجودها‘، فهل لا نعرف فروقاً بين الشيئين لأننا فقط لا نعرف (الفروق التي هي موجودة بالفعل) أم لأنه لا توجد فروق يمكن معرفتها بين الشيئين؟ في الكثير من الأحوال لن نتمكن من التيقن من ذلك أبداً.

إذا كان شيئان يعبران عن نفس الشيء الواحد فإنه لا توجد بينهما فروق يمكن معرفتها.

المعاني

Ogden semiotic triangle.png
مثلث المعنى

هناك تفرقة أخرى مهمة هنا، وهي تأخذنا إلى النقاش حول الفرق بين المفاهيم أو الأفكار وبين الأشياء المادية. يعبر مثلث المعنى (Triangle of reference)، وهو من ضمن أحد النظريات في علم السيميوطيقا (Semiotics)، عن العلاقة بين المفهوم الكائن في العقل (يسمى أيضاً المَرْجِع Reference)، وبين الجسم المادي المرتبط به (يسمى أيضاً المُرْجَع إليه Referent) وبين الكلمة أو طريقة التعبير عن المفهوم (يسمى أيضاً العلامة Sign)، ولكل مُرْجَع إليه نعرفه هناك مَرْجِع في عقولنا، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً في النقاش عن أن عالم الأفكار المجردة أوسع من عالم الماديات ويشمله، بل أننا في بعض الأحيان يكون عندنا من المعرفة الشخصية البحتة ما لا يمكن التعبير عنه بأي علامة، كما هو الحال عندما يعجز الشخص عن إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن مشاعر ما، لكن الشائع بشكل أكثر انتظاماً في اللغة هو حالة ’المرجع إليه الغائب‘ الذي فيها لا يرتبط المرجع بكيان مادي، كما هو الحال في مفاهيم مثل العدالة والحرية والسلام إلخ... هذا يؤكد أكثر على أن المفهاهيم أكثر من الأشياء المادية.

لكن المفاهيم ليست كيانات مطلقة، فالمفاهيم (المراجع) توجد حصرياً في عقول معتنقيها، وأي كتاب لا يحتاوي على مفاهيم، بل على علامات يترجمها القارئ إلى مفاهيم، ولا يمكنك أن تأخذ أي مفاهيم من كتاب مكتوب بلغة لا تقرأها، لأنه ببساطة لا يحتوي على مفاهيم، بل علامات. كل منا يخلق في ذهنه مفاهيمه الشخصية، ولذلك فكل شخص يمكنه أن يكون على دراية تامة بمفاهيمه، لكن لا يوجد من يمكنه أن يخبرنا بكل جانب من جوانب مفهاهيم شخص آخر. يمكننا أن نحاول أن نتواصل لتوصيل المفاهيم من عقل إلى آخر وضبطها حسب الحاجة لكي نصل إلى إجماع حول هذه المفاهيم، فعلى سبيل المثال مفهوم ’الحرية‘ في بعض البلاد في وقتنا الحاضر مع الأسف أن المواطن ليس مسجوناً! ولا يمتد مثل هذا المفهوم إلى بعض حقوق الإنسان الأساسية مثل حق الرأي والتعبير عنه، فالناس في المجتمعات المختلفة لا يعني لهم مفهوم ’الحرية‘ نفس الشيء الواحد، ويمكننا فقط عن طريق التواصل أن نعيد صياغة الأفكار ونصل إلى فهم موحد لها، فالأفكار تختلف عن الكيانات المادية في أننا نخلقها ونشكلها كيفما شئنا، ويمكن أن نعرف عنها كل شيء بشكل كامل بدون أدنى شكوك حول ما نعرفه عن الفكرة.

أما المُرْجَع إليه الذي تشير إليه الفكرة فهو خارج العقول، ولا يمكن بأي حال أن نعرف كل شيء عن المُرْجَع إليه، فالمفاهيم محدودة بما يمكن ملاحظته بخصوص الأشياء المادية، ولا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه يعرف حقاً كل شيء عن شخص آخر مهما كان ذلك الآخر قريباً منه، فعلى الأقل لن يمكنه أن يعرف ماذا يجري في عقل الآخر! طوال حياتي لاحظت أن الأشياء تقع على الأرض، وهذا كون في ذهني مفهوم الجاذبية، لكنني لا استطيع أن أجزم بنسبة 100% يقيناً أن الجاذبية كانت وستظل موجودة في كل وقت ومكان كما هي موجودة الآن، ولا يمكنني أن ادعي انني أعرف كل شيء عن الجاذبية. هل الجاذبية (Gravity) هي نوع من القوى كما رجح إسحق نيوتن (Isaac Newton)؟ أم هي تغير في شكل الزَمَكان (الزمان والمكان معاً) كما رجح ألبرت آينشتاين (Albert Einstein) في النظرية النسبية العامة (General Theory of Relativity)؟ أم أن سببها هو جسيمات الجرافيتون (Gravitons) كما رُجِّحَ حديثاً؟ كل من هذه النظريات يعمل، لكنها كلها لها نقاط ضعف، ونحن لا نعرف ماهية الجاذبية حقيقة، لكننا نعرف معنى الجاذبية، فهي شيء يشد الأشياء تجاه بعضها البعض، لكنني يمكن بكل ثقة أن أدعي أنني أعرف ماذا يعني مفهوم ’النجاح‘ بالنسبة لي، لأن هذا مَرْجِع في عقلي لا يقابله مُرْجَع إليه في العالم المادي، وأملك التحكم المطلق في صياغة هذا المفهوم.

الأحادية مقارنة بالتعددية

الخاصية الأحادية (Monadic property) من الكلمة اليونانية μόνος بمعنى ’واحد‘ هي خاصية للكيان نفسه، مرتبطة بجوهر الكيان وليس بعلاقته بشيء آخر، أما الخاصية التعددية (Polyadic property) من الكلمة اليونانية πολύς بمعنى ’كثير‘ فهي خاصية تعتمد على كيانين على الأقل لتعريفها، وعندما تكون معتمدة على كيانين بالضبط فإنها تسمى خاصية ثنائية (Dyadic property) من الكلمة اليونانية δυο بمعنى اثنين. هذه التسمية تنطبق أيضاً على الكيانات أو العلاقات، والكيان المجرد الذي يمكن أن يكون له معنى في نفسه يسمى مفهوماً أحادياً، في مقابل المفاهيم التعددية التي تكون عديمة المعنى أو ناقصة المعنى في نفسها، مثل مفهوم العلاقات الزمانية والمكانية مثل ’قبل‘ أو ’تحت‘.

المفاهيم الأحادية فقط هي التي يمكن أن يكون لها خواص أحادية بشكل حصري، أي أن ليس لها خواص من أي نوع آخر غير الأحادية، ويمكن الجدل بأن المفاهيم التعددية لا يمكن أن يكون لها خواص أحادية فقط، لأن مثل هذه المفاهيم تعتمد بالضرورة على مفهوم آخر ليكون لها معنى كامل، وبالتالي فهناك على الأقل خاصية غير أحادية واحد تربط بين المفهومين، وكمثال على ذلك نأخذ فعل الملء، فهو في نفسه ناقص المعنى على أحسن تقدير إلا إذا كان يستخدم في سياق يرجح المملوء، والعلاقة بين الفعل ومفعوله في حالة الملء هي علاقة ثنائية، بل يمكن أيضاً أن يكون لمفهوم الملء علاقة تعددية لأن هناك المملوء والمملوء به، فمثلاً ”ملأ فلان الكأس ماء“، بها علاقة ثلاثية بين فعل الملء والمملوء (الكأس) والمملوء به (الماء)، وبالمثل نجد فعل العطاء، فليس أحد يعطي فقط، بل لا بد أن يعطي شيئاً ما، ومفهوم العطاء بدون تحديد المعطى مفهوم ناقص، بينما نجد في المقابل بعض المفاهيم مثل المشي والتكلم والأكل والطيران، وكلها مفاهيم يمكن أن تكون أحادية، فيمكن أن نقول أن ”فلاناً يمشي“ ويكون المعنى كاملاً بدون إضافة ما يفيد سرعة المشيء أو مكانه أو زمانه، وإنما هذه كلها يمكن أن تضاف كمعلومات لتحديد المفهوم أكثر، لكنه ما زال كامل المعنى في نفسه.

المعرفة خاصية تعددية، لأن الشخص لا بد أن يعرف شيئاً ما، بالإضافة إلى أن المعرفة مجردة، فهي في أذهان الناس، ولذلك ففي الكثير من الأحوال لا يمكن النظر إلى المعرفة بدون النظر إلى من يعرفها، فما أعرفه أنا يختلف عما تعرفه أنت، وأيضاً هناك معارف شخصية يصعب نقلها من شخص لآخر، فما أعرفه عن طعم القهوة مثلاً ليس بالضرورة هو ما تعرفه أنت عن طعمها، والمفاهيم التي نعرفها عن الأشياء المادية هي يقيناً تعددية وليست أحادية. المعرفة ليست مستقلة عنا ولا عن الكيانات المادية ولا عن العملية التي من خلالها عرفنا ما نعرفه عن تلك الكيانات، إلخ... الكينونة الحقيقية أو الجوهر الحقيقي للأشياء المادية هو خاصية أحادية بالفعل، فتلك الأشياء موجودة، وبالتالي فإن لها خاصية أحادية واحدة على الأقل هي خاصية ’الوجود‘، وفي المقابل فإن ما نعرفه عن المفاهيم التي في عقولنا يمكن أن يكون كاملاً ودقيقاً، لكن هذا لا ينطبق على كل المفاهيم، وإنما فقط على المفاهيم الأحادية التي لها فقط خواص أحادية. فكيف يؤثر هذا على قانون تطابق المتشابهات؟

نظرة مجددة على تطابق المتشابهات

ناقشنا سابقاً أنه من المستحيل التفرقة بين جهلنا بوجود فروق يمكن معرفتها هي كائنة بالفعل بين شيئين وبين عدم وجود فروق يمكن معرفتها من الأساس. معظم الأشياء لها خصائص أحادية تميزها بدون الاعتماد على شيء آخر ليكون المعنى كاملاً، لكن ما نعرفه عن هذه الأشياء ليس خاصية أحادية. على سبيل المثال، حزام كايبر (Kuiper belt) هو قرص من الأجسام الفضائية الصغيرة نسبياً يشابه حزام الكويكبات (Asteroid belt) في مجموعتنا الشمسية، لكنه يبعد عن الشمس حوالي 30 مرة قدر بعد الأرض عن الشمس، ويمتد لمسافة تعادل 20 مرة هذا البعد، ورُجِّحَ وجوده في أوائل القرن العشرين، لكن لم يوجد دليل مباشر على وجوده حتى اواخر القرن العشرين، ولا بد أنه كان موجوداً قبل اكتشافه، وبالتالي فعلى الرغم من عدم معرفتنا به لقرون طويلة فإنه كان موجوداً هناك على الأرجح، فخاصية ’الوجود‘ الأحادية لحزام كايبر كانت موجودة منذ وجوده، لكن خاصية ’معرفتنا به‘ الثنائية على أقل تقدير كانت غير موجودة.

Sorcerer Mickey - Disney's Hollywood Studios
صورة لميكي ماوس في دور ’صبي الساحر‘ في القصة الخيالية الشهيرة

فلنتخيل مثالاً معاً، وعلى الرغم من أنه خيالي إلا أنه يوضح كيف أن قانون تطابق المتشابهات قد يكون مشكلة في التطبيق. تخيل أنك يمكنك السفر عبر الزمن حاملاً بعض تكنولوجيا التنصت التي نستخدمها اليوم، وأنك وضعت هذه الأجهزة في قصر الملك في الزمن الذي سافرت إليه، فعندئذ سيمكنك أن تعرف كل أسرار الملك وأنت في مكان بعيد وفي وجود شهود على أنك لم تكن قرب القصر مطلقاً، ولو قلت للملك على هذه الأسرار فإنه قد يزن أن لك جواسيس في القصر، لكن يمكن أن تتحداه أن تقول له ما يحدث أو يقال عندما يكون متيقناً من وجوده وحده (وسيمكنك ذلك بسبب أجهزة التنصت). الملك لا يعرف شيئاً عن أجهزة التنصت، لكنه يعتقد أن هناك أشخاصاً لديهم قدرات خارقة للطبيعة، وبسبب قصور معرفته، فإنه سيصدق أنك تملك قدرات خارقة للطبيعة وأنك بالفعل ساحر، بينما أنت لست ساحراً. في مثل هذه المواقف وشبيهاتها يفشل قانون تطابق المتشابهات.

لهذا فإن قانون تطابق المتشابهات يمكن تطبيقه فقط إذا ما كنا نعرف كل الخصائص المحددة للكيان، أو على أقل تقدير نعرف كل الخصائص الأحادية للكيان، وفي المثال السابقة فإن الخاصية الأحادية التي لك وهي أنك ’لست ساحراً‘ لا يعرفها الملك. ولكن كيف يمكن أن نكون متيقنين أننا نعرف كل الخصائص الأحادية لشيء ما؟ كما ناقشنا سابقاً، هذا ممكن فقط في عالم الأفكار والمفاهيم، وفقط فيما يختص بالأفكار الأحادية. كل ما له علاقة بمعرفتنا عن شيء مادي هو بالضرورة ليس أحادياً، ولهذا فإن قانون تطابق المتشابهات لا يمكن استخدامه في أي مجال بخلاف المفاهيم المجردة عن الأشياء المادية.

نحن لا نعرف ما لا نعرفه، ولهذا فلا يمكن أن ندعي أننا نعرف كل شيء.

فإذا كنت لا تستطيع أن تحدد الفرق بين فكرتين أحاديتين في ذهنك، فإن هناك احتمال واحد من اثنين فقط: إما أنه لا توجد أي فروق بين هاتين الفكرتين (وفي هذه الحالة فهما فكرتان متطابقتان) أو أن فكرة منهما أو كليهما ليسا بالفعل من أفكارك (ومن ثم لا يمكنك أن تعرف كل شيء عنهما). ولو كان من الممكن للآخرين أن يضعوا في ذهنك أفكاراً ليست لك، فلن تكون هناك أي طريقة لمعرفة أي شيء بخصوص تلك الأفكار بخلاف ما سُمِحَ لك بمعرفته من قِبَل من وضعها في ذهنك، وبالتالي فإنه سيكون من المستحيل أن تجد فرقاً بينهما، ومن ثم فقد وجب عليك أن تقبل أن كل فكرتين أحاديتين لا يمكن التفريق بينهما في ذهنك هما بالفعل يعبران عن نفس الفكرة الواحدة. لن يكون هناك احتمال آخر.

التساوي الامتدادي والتساوي الجوهري

امتداد (Extension) الفكرة أو الصفة (ويطلق عليها في المنطق المحمول) هو كل الأشياء التي تنطبق عليها هذه الفكرة أو الصفة. على سبيل المثال، أشجار التفاح هي من امتداد فكرة ’النبات‘ والكلاب هي من امتداد فكرة ’الثدييات‘، والمقاعد هي من امتداد فكرة ’الأثات‘، والخوف هو من امتداد فكرة ’المشاعر‘، إلخ... مضمون (Intension) الفكرة أو الشيء هو صفة (محمول) تميز هذه الفكرة أو هذا الشيء مع كل مضامين هذه الفكرة أو هذا الشيء، فعلى سبيل المثال، فإن كل الصفات ’فاكهة‘ و’أصفر‘ و’غير زي بذر‘ و’مستدير في المقطع العرضي‘ هي مضامين لثمرة الموز الناضجة، وكل الصفات ’ذو أربعة أطراف‘ و’ذو فراء‘ و’يلد صغاراً أحياء‘ و’صوته «مياو»‘ هي مضامين للقط. وفي ضوء ما ناقشناه سابقاً، فالامتداد هو مجموعة من الأشياء المُرْجَع إليها بينما المضامين هي مجموعة من الصفات (أو ’المراجع‘ لأنها أفكار). المجموعة المشكلة من كل المضامين المميزة لأي فكرة أو شيء نسميها جوهر (Comprehension) الفكرة أو الشيء. لاحظ أن الأفكار يمكن أن تكون امتداداً أو تكون مضامين، لكن لكي تكون الفكرة مضموناً يجب أن تكون صفة، أي أن ’حب‘ يكون أن تكون في امتداد فقط، أما ’محب‘ فيمكن أن تكون مضموناً أو تكون في امتداد، فمثلاً امتداد صفات الأب الجيد أنه ’محب‘، لكن فكرة ’الحب‘ لا يمكن أن تكون صفة.

ويقال لأي كيانين أنهما متساويان امتدادياً (Extensionally equivalent) إذا كانت أمتدداتهما واحدة، ويقال أنهما متساويان جوهرياً (Intensionally equivalent) إذا كان جوهرهما واحداً، والتعريفات الامتدادية والجوهرية (Extensional and intensional definitions) تختلف في أن الأولى تذكر كل عناصر امتداد الفكرة أو الصفة، بينما الأخيرة تذكر كل صفات الفكرة أو الشيء. التعريف يقصد به تمييز شيء ما بحيث يمتنع الالتباس، ومن ثم فتعريف الشيء هو الوصف الضروري والكافي (Necessary and sufficient) لتمييز هذا الشيء عن غيره من الأشياء، وعلى الرغم أن هذا التعريف السابق لمفهوم ’التعريف‘ لا خلو من النقائص، إلا أنه أكثر التعريفات إقناعاً لي.

بعض الكيانات يفضل تعريفها امتدادياً، وبعض الكيانات الأخرى يفضل تعريفها جوهرياً، فعلى سبيل المثال، منتجات أحد المصانع يفضل تعريفها امتدادياً عن طريق سرد كل ما ينتجه المصنع، وعموماً فإن الامتدادات التي هي مجموعات صغير ومحدودة تصلح للتعريفات الامتدادية، خصوصاً عند عدم وجود ’قاعدة محددة‘ للتعريف بخلاف ذلك، ففي مثال المصنع فإن منتجات المصنع يمكن سردها أسهل مما يمكن وصفها بقاعدة تعبر عن جوهرها، بينما بعض الأشياء أسهل في وصف جوهرها، مثل الأعداد التي تقبل القسمة على 10، فوصف تلك الأعداد بأنها تلك التي تحتوي على صفر في مكان الآحاد ممكن، لكنه من المستحيل أن نسرد كل الأعداد التي تقبل القسمة على 10، لكن هل هناك فرق أساسي بين التعريفات الامتدادية والتعريفات الجوهرية؟ نعم.

قانون تطابق المتشابهات يصلح للتطبيق على أي كيانين إذا وفقط إذا كان هذان الكيانان متساويين جوهرياً.

التساوي الامتدادي الذي يكون فيه التعريف الامتدادي لكيانين متساوٍ لا يعبر بالضرورة عن أنهما غير متمايزين (أي لا يعبر بالضرورة عن أنهما نفس الشيء الواحد)، فلو كان هناك مصنعان لهما نفس التعريف الامتدادي، أي ينتجان نفس المنتجات، فإنهما ليسا بالضرورة نفس المصنع الواحد، بينما التساوي الجوهري الذي فيه كل الصفات الأساسية لكيانين متساوية يعني بالضرورة أن الكيانان متطابقين. تذكر أن التساوي الجوهري هو أن يكون جوهر الكيانين واحد، وهو كل مضامين الكيانين التي تحدد وصفهما، ولو أمكننا أن نسرد كل خصائص أو صفات كيانين فوجدنا أنها واحدة، فإن الكيانان متطابقين، لكن هذا يرجع بناء إلى النقاش حول حدود المعرفة، فإذا كنا نعرف مضمون كيانين وكان المضمونان متساويين، فإن الكيانان بالضرورة واحد. التساوي الجوهري يشترط معرفة كل مضامين جوهر الشيئين الذين نقارنهما، وهو كما ناقشنا محدود في نطاق بعض الأفكار.

في الحياة اليومية

تشابه المتطابقات هو تفكير فطري ونستخدمه بشكل يومي، فإذا كنت في ’بيت ما‘ هو نفسه ’بيتك أنت‘ فإنه يتبع بالضرورة ألا تكون هناك فروق بين هذا البيت وبيتك. وربما أن مناقشة هذا الأمر أكثر هو مضيعة للوقت والمجهود.

قانون تطابق المتشابهات أقل شيوعاً في حياتنا اليومية من قانون تشابه المتطابقات، على الرغم من أنه ليس قانوناً صارماً في معظم الاستخدامات اليومية، فالناس عادة ما تتجاهل كلمة ’قد‘ في جملة ”عدم التمايز قد يعني التطابق“ ويعتبرون أن عدم التمايز يعني بالضرورة التطابق. هذا خطأ! إذا كان عدم التمايز يتأثر بحدود المعرفة فإنه يعني فقط أن هناك احتمال للتطابق، ويجب أن نضع في الأعتبار أن هذا الاحتمال قد يكون صفراً، أي أن الأشياء يمكن أن تكون غير متطابقة. قصور المعرفة لا يعطينا أي معلومات محكمة لكي نكون تقديراً كمياً عن هذا الاحتمال.

Mystique
شخصية ’مِسْتِيك‘ في قصص إِكْس-مِن

هناك فكرة متكررة في الأفلام السينمائية عن أشخاص يتقمصون شخصيات غيرهم فيحاولون أن يكونوا غير مطابقين لهم لكي لا يمكن للناس أن يدركوا أن هناك فرقاً، وبالتالي يعتبرون أنهما نفس الشخص الواحد. يمكن أن ترى مثل هذه الفكرة في فيلم ’Face off‘ وفيلم ’إعدام ميت‘ وفي شخصية مِسْتِيك (Mystique) في الأعمال المبنية على إِكْس-مِن (X-Men) وفي العديد غيرها. الفكرة العامة أن الناس يميلون إلى اعتبار أن أي كيانين غير متمايزين هما نفس الكيان الواحد لأنهما لا يجدون فرقاً يميز أحدهما عن الآخر. لكن ماذا يمكننا أن نفعل بخلاف ذلك؟! إذا لم يكن هناك تمايزاً بين شيئين، فهل من ’المعقول‘ أن نعتبر انهما ليسا نفس الشيء الواحد؟ لأن هذا لو صح فإننا يجب أن نكون دائماً في شك بخصوص كل شيء وكل شخص نقابله كل يوم، وهذا لا يبدو ’معقولاً‘.

الفرق الأساسي هنا هو التمييز بين ما هو مرجح الحدوث وبين ما هو نادر الحدوث، وبين ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وليس بين ما هو معقول وما هو غير معقول، لأنه من المعقول (وكل معقول هو ما يمكن استنتاجه بالعقل السليم) أن يكون هناك كيانان غير متمايزين لا يعبران عن نفس الكيان الواحد، لكن هذا نادر الحدوث في حياتنا اليومية، أو على الأقل هو نادر الحدوث على قدر معرفتنا بحياتنا اليومية، بالإضافة إلى أنه لا توجد طريقة ممكنة للتيقن من أنه لا توجد فروق يمكن معرفتها بين كيانين، لأن هذا يتطلب أن نؤكد أن كل شيء يخص هذين الكيانين يمكن معرفته. أقصى ما يمكن أن نفعله هو أن نقبل أن غياب فروق ملحوظة بين كيانين يعني أن هذين الكيانين هما كيان واحد، وهذا ينطبق على ما نعرفه عن الكيانات المادية، وليس الأفكار كما وضحنا سابقاً. ولهذا فإننا نفعل أقصى ما يمكن فعله عندما نعتبر أن الأشياء المتشابهة متطابقة، ولكنه ليس من غير المعقول أن نعتبر الأشياء المتشابهة غير متطابقة، مهما بدا ذلك لنا غير مرجح الحدوث. أقصى ما يمكننا فعله‘ ليس هو الحقيقة المطلقة، واعتباره كذلك هو خلال كبير في عملية التفكير’.

نحن نستخدم قانون تطابق المتشابهات في حياتنا اليومية بشكل خاطئ، ولكن هذا هو أقصى ما يمكننا فعله، ومن الوارد جداً أن يكون خطأ.

في لغتنا الطبيعية هناك سياقات يمكن فيها لبعض التعبيرات وامتداداتها أن تستخدم محل بعضها البعض، وبعض السياقات الأخرى التي لا يمكن فيها ذلك. على سبيل المثال، التعبير ’رجل سويدي‘ يمتد ليشمل ألفريد نوبل (Alfred Nobel) الشهير، وفي جملة مثل ”ألفريد نوبل هو من أسس جوائز نوبل“ فإنه من المقبول تماماً أن نستخدم التعبير ’رجل سويدي‘ محل التعبير ’ألفريد نوبل‘ ونكتب الجملة في صيغة ”رجل سويدي هو من أسس جوائز نوبل“، لكن في سياق مختلف مثل ”رجل سويدي هو من أسس شركة إريكسون (Ericsson) للاتصالات“، فإننا لا يمكن أن نستخدم ’ألفريد نوبل‘ محل التعبير ’رجل سويدي‘، فمن أسس شركة إريكسون هو السويدي لارس ماجنوس إريكسون (Lars Magnus Ericsson). في مثال آخر مثل التعبير ’الإنجليز‘ الذي هو من امتداد التعبير ’من يتحدثون الإنجليزية‘، فإن الجملتين ”شاهدت بعض الإنجليز في الصباح“ و”شاهدت بعض من يتحدثون الإنجليزية في الصباح“ لا يعبران عن نفس الشيء، ولا هما متكافئتان، فالثانية يمكن أن تحل محل الأولى، لكن الأولى لا يمكن أن تحل محل الثانية. في المثال الأول استخدمنا جزءًا من الامتداد (ألفريد نوبل) ليحل محل كل الامتداد (رجل سويدي)، أما في المثال الأخير فإننا استخدمنا كل الامتداد (من يتحدثون الإنجليزية) ليحل محل جزءًا منه (الإنجليز)، والسياقات التي يمكن فيها لبعض التعبيرات أن يحل الامتداد أو جزء منه محل التعبير تسمى سياقات امتدادية، أما السياقات التي لا يمكن فيها ذلك تسمى سياقات جوهرية. فلننظر إلى المثال التالي: في جملة ”الأكواد النووية للولايات المحتدة الأمريكية هي تحت تحكم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية“. في وقت كتابة هذا المقال فإن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو باراك أوباما (Barrack Obama)، لكن هذا سيتغير قريباً، وهذا لم يكن حقيقياً منذ 10 سنوات، فحتى وإن كان التعبير ’باراك أوباما‘ من امتداد التعبير ’رئيس الولايات المتحدة الأمريكية‘ فإن التعبير ’جورج بوش‘ (George W. Bush) والتعبير ’بيل كلينتون‘ (Bill Clinton) هما أيضاً من امتداده، ولكن ليس منهما من يمكنه الحلول محل التعبير ’رئيس الولايات المتحدة الأمريكية‘ في الجملة السابقة بدون تغيير حقيقة الجملة. مثل هذه الجملة تعبر عن سياق جوهري.

لهذا فإن ليس كل التعبيرات المتساوية امتدادياً يمكن استخدامها محل بعضها البعض في أي سياق، على الرغم من أنها متشابهة أو غير متمايزة من جهة التعريف الامتدادي، ويجب أيضاً أن نلاحظ أن التعريف الجوهري للأشياء يمكن أن يتغير، فمثلاً صفة ’رئيس الولايات المتحدة الأمريكية‘ حقيقية بالنسبة لباراك أوباما الآن، ولكنها ستتغير قريباً إلى ’الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية‘. يجب مراجعة التعريفات بشكل دوري كما يتطلب الأمر، وقانون تطابق المتشابهات يتأثر بتغير التعريفات، فالقانون ينطبق على التعريفات الحالية والحاضرة وليس بالمعنى المطلق.

في الرياضيات

علامة التساوي في الرياضيات لا تعني دائماً أن ما على يمينها مطابق تماماً لما على يسارها من كل جهة، وفي أغلب الأحوال فإن العلامة \(=\) تستخدم لتعني التساوي في القيمة لكن ليس بالضرورة في المعنى، ولو أن كيانان رياضيان يتساويان في المعنى (تساوٍ جوهري) فإننا نستخدم العلامة \(\equiv\) للتعبير عن ذلك.

على سبيل المثال، العمليتان الألجورذميتان الآتيتان:

  • اختر عدداً، ثم اضربه في نفسه، واطرح من الناتج ضعف هذا العدد، ثم أضف واحد إلى ناتج الطرح.
  • اختر رقماً، ثم اطرح منه واحداً، ثم اضرب الناتج في نفسه.

العمليتان السابقتان ليس لهما نفس المعنى، ولا نفس الخطوات، لكنهما دائماً يعطيان نفس القيمة، ولو أن العملية الأولى \(f(x)=x^2-2x+1\) والثانية \(g(x)=(x-1)^2\) فإن \(f(x)=g(x)\) في القيمة. امتداد الدالة هو مجموعة كل الأزواج pairs (أو القيم tuples) المرتبة التي تميز العلاقة (mapping) بين مجال الدالة (domain) ومداها (range)، وفي أي سياق يختص بالقيمة فقط (أي العلاقة بين المجال والمدى بغض النظر عن كيفية تكوين هذه العلاقة) فإن \(f(x)\) و \(g(x)\) غير متمايزتين ومتطابقتين، لكن فلننظر ماذا سيحدث عندما نقيم \(g(x)/h(x)\) بحيث أن \(h(x)=x-1\).

\[ \frac{g(x)}{h(x)}=\frac{(x-1)^2}{x-1}=x-1 \]

التقييم السابق يكون خاطئاً ما لم نصرح بوضوح أن القيمة غير معرفة عند \(x=1\). القيمة \(g(x)/h(x)\) مساوية امتدادياً للقيمة \(x-1\) لكل قيم \(x\) فيما عدا \(x=1\)، وعلى الرغم من أن هذا يمكن التعرف عليه بسهولة من القيمة غير المختصرة \(g(x)/h(x)\)، فإنه غامض تماماً في القيمة \(x-1\)، ولهذا فإن كل تعويض عن القيمة \(g(x)/h(x)\) بالقيمة \(x-1\) يجب أن يوضح فيه استثناء علاقة \(x=1\) من امتداد الدالة.

نفس الشيء ينطبق على القيمة \(x\) والقيمة \(\sqrt{x^2}\). من السهل الوقوع في خطأ استبدال أحدهما بالآخر بدون التفكير كثيراً، وهما في الحقيقة غير متمايزين في الكثير من الأحوال، لكن ليس في كل الأحوال، فالجذر التربيعي لأي عدد يمكن أن يكون قيمة سالبة أو قيمة موجبة، وعليه فإن \(\sqrt{5^2}\) هو \(\pm5\) وليس \(5\) فقط. فضلاً عن أن تربيع أي قيمة سالبة يتخلص من علامة السلب، وبالتالي فإن \(\sqrt{(-5)^2}\) هو أيضاً \(\pm5\) وليس \(-5\). إذا كنا نريد أن نكون على صواب في كل الأحوال فإننا يجب أن نوضح أن \(x=+\sqrt{x^2}\) لكل \(x \ge 0\) وأن \(x=-\sqrt{x^2}\) لكل \(x \lt 0\).

في بعض الأحيان يكون معنى شيء هو في الأساس نفس معنى شيء آخر، أي أنهما متساويان جوهرياً، فعلى سبيل المثال عندما ناقشنا إذا ما كان \(2 \ge 2\) فإن معنى \(x \nless y\) هو نفسه بالضبط معنى \(x \ge y\)، ولهذا فإننا يمكن أن نقول أن \(x \nless y \equiv x \ge y\). أيضاً، إذا كان هناك مجموعتان \(S\) و \(P\)، فإن معنى \(x \in S \land x \notin P\) هو مطابق تماماً لمعنى \(x \in S/P\) بحيث \(S/P\) هو الفرق (Relative complement) بين المجموعة \(P\) والمجموعة \(S\). ويمكن أن نكتب \(x \in S \land x \notin P \equiv x \in S/P\).

حساب المتجهات التقليدي (Vector algebra) الذي يُدَرَّس في المدارس الثانوية هو مثال آخر فيه مجموع أي متجهين مساوٍ امتدادياً للمتجهين مجتمعين من جهة المقدار والاتجاه، لكن ليس مساوياً جوهرياً، ولكي يكون مساوياً جوهرياً فإننا يجب أن نعين للمتجه نقطة تأثير في الفراغ الإقليدي (Euclidean space) لأن المقدار والاتجاه فقط ليسا الصفات الوحيدة المميزة للمتجه. مفهوم مجال المتجهات (Vector fields) يفعل ذلك. أترك للقارئ التفكير في أمثلة أخرى للتساوي الامتدادي والجوهري في الرياضيات.

في مجال برمجة الحواسب، فإن هذا البرنامج القصير للغة البايثون (Python):

for x in range(0,10): print(x)

هو مساوٍ جوهرياً لهذا البرنامج:

x = 0 while True: print(x) x +=1 if x == 10: break

لأن كلاهما يترجمان إلى نفس التسلسل من الأحداث، وإنما الصيغة الأولى لكتابة البرنامج هي مجرد صيغة أسهل من الصيغة الثانية، لكنهما في الجوهر شيء واحد. هذا مثال جيد على الفرق في نقطة البداية التي تميز قانون تشابه المتطابقات عن قانون تطابق المتشابهات، فلأننا خلقنا لغة البايثون فإننا نبدأ بالتأكيد على أن البرنامجين هما بالفعل واحد، ولذلك فلا توجد فروق بينهما، وفي المعنى فكلاهما مُرْجَع إليه لنفس المَرْجِع، ولو أن برنامجاً مكتوباً بلغة الآلة (Machine code) يفعل نفس الشيء فسيكون مطابقاً للبرنامجين السابقين إذا وفقط إذا لم يكن هناك المزيد من الشغل المبذول من قِبَل مترجم (Interpreter) البايثون، وهذا مثال على أن المعنى قد يكون واحداً لكن التطبيق (Implementation) (المرتبط بشيء مادي) يختلف.

فلنأخذ مثالاً آخر، ولنفرض أن تجارة ما تدر على صاحبها ربحاً قدره \(x\) مستحق عليه ضريبة بمعدل ثابت 20%، فإذا استعمل صاحب التجارة خبيراً ضريبياً لإيجاد طريقة لتقليل الضريبة المستحقة، وكانت أجرة هذا الخبير 1% من إجمالي ربح التجارة، فإن صاحب التجارة سينتهي بنفس القدر من الربح إذا استطاع الخبير الضريبي تقليل الضريبة المستحقة بما يعادل 1% فقط من القيمة \(x\). الربح الصافي في الحالتين سيكون متساوياً امتدادياً من جهة القيمة، لكن التفاصيل ستكون مختلفة بشكل كبير، أي أن الحالتين ليستا متطابقتين.

لأن الرياضيات تتكون من مفاهيم مجردة نبنيها في الذهن، فإننا غالباً ما نكون على يقين من أن بعض المفاهيم مساوية جوهرياً لمفاهيم أخرى، والفصل بين المفاهيم المجردة وبين ما هو مادي يعني أن التساوي الضمني بين المفاهيم سيكون دائماً صالحاً، وليس ضرورياً في أغلب الأحوال أن نفرق بين التساوي الامتدادي والتساوي الجوهري في الرياضيات، لكن أحياناً تكون التفرقة ضرورية، وخصوصاً عندما نطبق الرياضيات على الأشياء المادية فنعطيها معنى يرتبط بالأجسام المادية. على سبيل المثال، مفهوم الكسور يعني أن العُشْر من الواحد الصحيح هو دائماً وتحت أي ظرف من الظروف عُشْر الواحد الصحيح، وأن عشرة أعشار تكوِّن واحداً صحيحاً، لكن لا يوجد ما يمكن أن يكُون عُشْر ذرة هيدروجين بحيث أن مجموع عشرة منه يكوِّن ذرة هيدروجين واحدة (أو على الأقل لا يوجد مثل هذا الشيء على قدر علمنا).

في الرياضيات ينص قانون تشابه المتطابقات على أنه لكل الكيانات \(x\) وكل الكيانات \(y\) إذا كان \(x\) مساوياً لـ \(y\) فإنه لكل الصفات \(P\) تكون \(P(x)\) حقيقية إذا وفقط إذا كانت \(P(y)\) حقيقية. \[ \forall x \, \forall y \, (x = y \rightarrow \forall P \, [P(x) \leftrightarrow P(y)]) \] علاقة التساوي (Equivalence) المقصودة في التعبير ’مطابق‘ تتضمن الانعكاس (Reflexivity) والتماثل (Symmetry) والتعدي (Transitivity)، وقانون تطابق المتشابهات يعبر عنه في المنطق من الدرجة الثانية بالصورة: \[ \forall x \, \forall y \, (\forall P \, [P(x) \leftrightarrow P(y)] \rightarrow x=y ) \] ومن الواضح مما سبق كيف أن نقطة بداية التأكيد تصنع الفرق بين القانونين، وأيضاً من الواضح كيف أن معرفة كل الصفات \(P\) للكيانين \(x\) و \(y\) ضروري لاستنتاج أن \(x\) تساوي \(y\). معكوس قانون تشابه المتطابقات (أحياناً يطلق عليه اختلاف المتمايزات) في المنطق من الدرجة الثانية يعبر عنه كالآتي: \[ \exists x \, \exists y \, (x \neq y \leftarrow \exists P \, [P(x) \nleftrightarrow P(y)]) \] وهو ينص على أن هناك كيان واحد على الأقل \(x\) وكيان واحد على الأقل \(y\) بحيث أنه إذا كان \(x\) متمايزاً عن \(y\)فإنه من الضروري وجود صفة واحدة \(P\) للكيان \(x\) تختلف في الحقيقة أو الخطأ عن نفس الصفة للكيان \(y\). معكوس قانون تطابق المتشابهات يعبر عنه في المنطق من الدرجة الثانية بالصورة: \[ \exists x \, \exists y \, (\exists P \, [P(x) \nleftrightarrow P(y)] \leftarrow x \neq y) \] وهو ينص على أنه يوجد كيان واحد على الأقل \(x\) وكيان واحد على الأقل \(y\) بحيث أنه إذا وجدت صفة واحدة على الأقل \(P\) للكيان \(x\) تختلف في الحقيقة أو الخطأ عن نفس الصفة للكيان \(y\) فإنه من الضروري أن \(x\) و \(y\) ليسا متساويين. هذه طريقة أخرى لصياغة قانون اختلاف المتمايزات، وجمع الطريقتين معاً ينتج هذه الصيغة لهذا القانون: \[ \exists x \, \exists y \, (x \neq y \leftrightarrow \exists P \, [P(x) \nleftrightarrow P(y)]) \] ومعناها أن أي كيانين ليسا متساويين إذا وفقط إذا كانت هناك صفة واحدة على الأقل تختلف ما بين الكيانين.

خامساً: مبدأ السبب الكافي

هذا المبدأ—بالرغم من كونه أساسياً لعملية التفكير في العموم—إلا أن ارتباطه بالرياضيات محدود، ومن صيغ هذا المبدأ أن كل استنتاج لا بد أن يكون له مبرر كاف، والصيغ الأخرى لهذا المبدأ تناقش العلاقة بين السبب والحدث، وهو ما لا يتعلق بالرياضيات، ونقاش هذا المبدأ بالتفصيل يخرج عن نطاق هذا المقال، وهو يستحق في ذاته مقالاً منفصلاً، وفي الواقع فإن الصيغ التي حولها جدل هي صيغ النقاش حول السبب والحدث، وهو ما ليس له تأثير على علم الرياضيات، وأشك أن أي إنسان عاقل، وخصوصاً المهتم بالرياضيات، سيجادل بأن أي استنتاج مقبول بدون مبرر.

التفرقة الوحيدة التي أود أن أوضحها في هذا السياق هي الفرق بين الاستنتاج وبين المعتقد، فالأول يجب أن يكون مبرراً، أما الأخير فهو خيار شخصي، وفي الرياضيات لا توجد معتقدات وإنما استنتاجات فقط. في الحياة اليومية يعتقد الناس في أشياء مختلفة، ويزعمون أن بعض هذه المعتقدات مبني بشكل كلي على معرفة شخصية يستحيل نقلها للآخرين، وأنا لا أعترض على حق أي إنسان في الاعتقاد فيما شاء، طالما ليس في معتقده فكرة تناقض فكرة أخرى، أي أن كل الأفكار تتسق مع بعضها البعض، وهذا مرجعه إلى قانون عدم التناقض.

وأعترف بقناعاتي التالية:

  • أن قدرتنا على المعرفة محدودة، وأنه من المستحيل أن نعرف كل شيء، وخصوصاً ما يتعلق بالأشياء المادية
  • أن بعض المعرفة البشرية شخصية بشكل مطلقة، ولا يمكن نقلها من شخص لآخر بأي شكل من الأشكال
  • أن الحقيقة المطلقة، على الرغم من كونها موجودة، فإن الوصول إليها كاملة مستحيل بسبب نقائصنا، وأن الحقيقة المطلقة فائقة التعقيد، وأننا يمكن أن نختلف في وجهات النظر لأننا ننظر إلى الحقيقة المطلقة من جوانب مختلفة
  • أنه لا يوجد إنسان عاقل ذكي قادر على اعتناق فكرتين متناقضتين بشكل واعٍ.

ولهذه الأسباب، فأنا لا أدعي انني أعرف الحقيقة المطلقة، لكنني أدعي أنني أملك من القدرات العقلية ما يكفي للبحث عن الحقيقة وفحص العديد من الأفكار لتحديد صلاحيتها، وأن هذا يتطلب اهتماماً شديدة بدقة المعنى، ولأنني محدود القدرات فإنني أدعو القارئ لمساعدتي في الفهم بصورة أفضل عن طريق إبداء الرأي فيما كتبته ونقاشه ليساعدني بما يملك من قدرات لا أملكها.


نسب المصنفات

باستثناء كل ما هو رابط إلى صفحة خارجية، يستحق القراءة بواسطة رفيق ميخائيل مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف - غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دوليرخصة المشاع الابداعي.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق