بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 12 مايو 2015

المصريون

من هم المصريون؟ هل هم قدماء المصريين الذين اندثرت حضارتهم من مئات السنين؟ هل هم شخصيات تاريخية لا وجود لها في عصرنا الحاضر؟ هل هم الأقباط، بدعوى أن من ظل على دين المسيحية من سكان مصر بعد الغزو العربي هو من ينحدر من سلالة المصريين القدماء، وأن غيره وافد أو غازٍ؟ أم هل هم المسلمون الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان مصر في الوقت الحالي؟ وهل المهاجرون من المصريين مصريون أيضاً أم أن مصريتهم سقطت عنهم بالتقادم؟ وماذا عن اليهود الذين يحملون الجنسية المصرية؟ صحيح أن عددهم ضئيل جداً حالياً، ولكن الوضع لم يكن كذلك في الأربعينات من القرن الماضي وما قبلها. واليهود جنس مختلف عن المصريين، وهم في الغالبية شبه المطلقة يتزوجون من جنسهم فقط، ولذا فهم ليسوا من نسل قدماء المصريين. فهل هم مصريون؟ وماذا عن المتجنسين بالجنسية المصرية من الوافدين والمهاجرين؟ هل هم مصريون؟

الحقيقة أنني أرى مصر في ضوء تاريخها الطويل المعقد، وفي ضوء التنوع العرقي والثقافي لسكانها على مر العصور. في زماننا هذا، يفترض أن المصري هو من يكون ولاؤه الأول لمصر كوطن، وليس من ينحدر من نسل الفراعنة أو من يحمل جواز سفر مصري، وإن كان التاريخ يحكي لنا أن المصريين—مثل غيرهم من الأعراق—كانوا في حقبة ما مقصورين على أصلهم العرقي، مثلهم مثل اليهود والفرس والإغريق والرومان، ومثل قبائل العرب التي كان أهلها ينتسبون لقبائلهم وأصولهم العرقية، ثم تحولت النظرة مع الغزو العربي لمصر، فصار المصري من ولد في مصر أو سكن بها، وصار الانتماء والولاء للإسلام أولاً قبل الوطن، أو لنقل أن مفهوم الوطن كأرض محددة جغرافياً نفاه الإسلام تماماً، وظل الحال هكذا حتى عصرنا الحديث، والذي لا يتجاوز المئة عام الأخيرة.

وعلى مر تاريخ مصر الطويل، غزاها وحكمها الكثير من الأعراق، مثل الهكسوس والنوبيين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان والعرب وبلاد ما وراء النهر (كزاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وكرجستان حالياً) والأكراد والشراكسة والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز، ووفد إليها الكثير من الأعراق مثل اليهود والتركمان والأمازيغ والأرمن والشوام والسودانيين واليونانيين والإيطاليين، ويكاد يكون من المستحيل أن سكان مصر الأوائل قد احتفظوا بنقائهم العرقي مع كل هذه الأعراق الوافدة. المصريون الحاليون هم مزيج من اختلاط تلك الأعراق جميعها بقدماء المصريين، سواء كان هذا الامتزاج ناتجاً عن اغتصاب النساء في فترات الغزو أو عن طريق الزواج، والنتيجة المحققة لذلك أن المصريين الحاليين، على الرغم من تغلب العرق الأصلي عليهم، هم أبعد ما يكون عن النقاء العرقي، إلا ربما في بعض قرى الصعيد البعيدة عن العمران والتي لم تختلط بكل هذه الأعراق.

أما ادعاء أن الأقباط هم النسل الذي احتفظ بنقائه العرقي عن قدماء المصريين فهذا أيضاً مردود، فحتى مع أنهم لم يتزوجوا من المسلمين، وإن تزوجت مسيحية بمسلم فأولادهما وبناتهما يصيرون مسلمين بالتبعية للأب كما في الشرع الإسلامي (انظر الرابط الأول والثاني والثالث والرابع)، فلا يمكن إثبات أنهم لم يتزوجوا من المسيحيين الوافدين من الشام وأرمينيا وأوروبا، بل العكس هو الصحيح، فنجد ممن نعرفهم من لهم أصول من أحد هذه الأعراق، بالإضافة إلى أننا لا يمكننا التأكد من أن المصريين الذين قبلوا المسيحية في القرن الأول الميلادي كانوا أنقياء العرق، وربما كانت لهم أصول أجنبية ناتجة عن الاختلاط مع أعراق أخرى قبل دخول المسيحية إلى مصر.

ولا يمكن أيضاً الادعاء أن مسلمي مصر الحاليين ليسوا مصريين، فنحن نعلم من التاريخ أن عدداً ليس بقليل من المصريين دخل في الإسلام مع الغزو العربي لمصر، والأوقع أن يكون مسلمو مصر الحاليون في مثل نقاء أقباطها عرقياً أو أقل قليلاً نتيجة الاختلاط مع الغزاة العرب، ولكن هم أيضاً مصريون من وجهة النظر العرقية، وفي جميع الأحوال لا يصح مجرد الادعاء أن مسلمي مصر لا ينحدرون من نسل قدماء المصريين وبالتالي فهم ليسوا مصريين. هذا من وجهة النظر العرقية، وهي ليست كل ما في الأمر.

أما ثقافة المجتمع المصري فهي مزيج أيضاً من كل ما وفد عليها، وإن كان الطابع المصري القديم قد ترك فيها بصمات في العادات والتقاليد واللغة لم يمحها الزمن، فنرى المصريين يحتفلون بيوم شم النسيم، وهو عيد مصري قديم جداً، ونراهم يحزنون على موتاهم أربعين يوماً، وهي الفترة التي كانت تلزم لتحنيط الموتي في مصر القديمة، ونرى سلطان الأم في مجتمعات الصعيد الأعلى كما كان في مصر القديمة، وغيرها الكثير الذي يتضح لمن يبحث في هذا الأمر، ونجد فيها أيضاً بعض الطابع المسيحي، وهو ليس بالكثير لأن الإسلام لم يسمح بأكثر من ذلك، ونراه في ارتباط شم النسيم بعيد القيامة الذي يتغير تاريخه من عام للآخر، ونرى فيها الطابع الإسلامي بوضوح، وذلك لا يحتاج لتفسير. المصريون لهم ثقافة مختلفة تميزهم عمن حولهم من الجنسيات، وهي هذا المزيج العبقري من كل ما مر عليها عبر السنين، ولهجاتهم العربية لا شبيه لها في البلدان الأخرى الناطقة بالعربية. المصريون ليسوا عرباً ولا أفريقيين ولا شوام ولا فراعنة ولا أتراك ولا أوروبيين، بل هم كل ذلك مجتمعاً، وهذا ما يميزهم عن غيرهم وما يجعلهم يفتخرون بأنهم مصريون.

فمن هو المصري الآن؟ المواطن في الدولة الحديثة الذي يحمل جنسية هذه الدولة وينتمي إليها هو من يضع انتماءه لهذه الدولة أولاً قبل أي انتماء آخر، بغض النظر عن أصله العرقي أو دينه أو أي شيء آخر، ولهذا أرى أن المتطرفين من المسلمين الذين يضعون انتماءهم الديني قبل انتمائهم للوطن ليسوا مصريين، كذلك الذي قال «إن المسلم الإندونيسي أقرب للمسلم المصري من النصراني المصري» أو «طز في مصر وأبو مصر»، وأرى أن القبطي الذي يدعي أنه ”صاحب البلد“ وأن المسلم ضيف عليه هو أيضاً ليس مصرياً، لأنه يضع انتماءه الديني قبل انتماءه للوطن الذي يجمعه مع من يختلف معه في الدين، بينما ذلك الوافد الذي يعيش على أرض مصر ويعشقها وهو على استعداد أن يضحي بحياته من أجلها هو مصري مصري مصري، حتى إن قال جواز سفره خلاف ذلك. وأرى أن من يريد أن يمحو الهوية المصرية بدمجها في أخرى فيجعل من المصريين عرباً أو أفريقيين ليس مصرياً أيضاً. وأرى أن من يتنكر لتاريخ مصر الطويل ويعتبر الآثار التي أبهرت العالم أصناماً والحضارة الفرعونية عفنة ليس مصرياً أيضاً. وأرى أن من يحتقر مصر—وليس من يحزن على حالها أو ينتقده—ويريد أن ينسلخ منها كلية ويصير جزءًا من وطن آخر ليس مصرياً. ومن يتنكر للغتها وثقافتها ليس مصرياً، حتى إن كانت هذه الثقافة بها الكثير من الأخطاء، فالواجب إصلاح الأخطاء بمواجهتها وليس التنكر لها.

وأراني مصرياً، فحتى في غربتي لا تزال مصر تشغلني، ولا تزال ممتزجة بكياني امتزاجاً لا ينفصل، ولا أزال أحاول إصلاحها بقدر ما تسمح به الإمكانيات، وكان يمكنني أن أنساها وأحيا في غربتي مستمتعاً بما بقي لي من سنين بعيداً عن كل المشكلات التي لا تمسسني بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكنني لم أستطع، لأني مصري.

وأسأل القارئ أخيراً، من تظن أنه مصري؟

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق