بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 30 أبريل 2012

معضلة الإسلام الليبرالي

هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات تختص بنقاش موضوعات إسلامية بشكل أو بآخر. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.

مبدئياً أحب أن أوضح أن هذا المقال يثبت منطقياً أنه لا يوجد شيء اسمه الإسلام الليبرالي، فالإسلام يتنافى مع مبادئ الليبرالية والليبرالية تتنافى مع شرع الإسلام. هذا المقال ليس نقداً للشرع الإسلامي ولا هو للدخول في جدل حول الشرع الإسلامي و الحكمة من ورائه، وإنما لتوضيح أن الليبرالية—بمفهومها الحديث المتعارف عليه—والإسلام لا يمكن أن يتفقا بأي حال من الأحوال.

الليبرالية قائمة على إطلاق الحريات الشخصية للأفراد. وإطلاق الحريات الشخصية للأفراد تعني ضمنياً أن كل الأفراد متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات من دون تمييز، ولو وُضِع تمييز بناء على حرية شخصية لانتفت فكرة إطلاق الحريات الشخصية. والحريات الشخصية جزء من مبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة بموافقة معظم أعضائها، وجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية وجمهورية جنوب أفريقيا والعديد من الدول الشيوعية امتنعوا عن التصويت في ذلك الحين. ومؤيدي الليبرالية يكادون يجمعون على احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف ومتفق عليها.

والليبرالية فكرة فلسفية حديثة نشأت في القرن السابع عشر الميلادي وانتشرت في كافة أرجاء العالم. وتوجد جذور لليبرالية في بعض الفلسفات القديمة، ولكن الليبرالية التي يعرفها معظم العالم اليوم هي نتاج مفاهيم القرن العشرين. أي أن الحديث عن الليبرالية في العصور الوسطى هو محض هراء، لأنها لم تكن وُجِدت بعد، والحديث عنها بمفهومها الحالي يجب ألا يرجع إلا إلى القرن العشرين أو على أقصى تقدير النصف الآخر من القرن التاسع عشر. والليبرالية تعتبر في رأيي نتاج لتطور البشرية وتحضر الجنس البشري على مر قرون عدة، وبينما نجد الأنظمة التي رفضت الليبرالية (كالأنظمة الشيوعية) قد انهارت، نجد الأنظمة الليبرالية قد ازدهرت مادياً وحضارياً. وعليه فلا يمكن أن نضرب بالليبرالية كفكرة وفلسفة عرض الحائط، وإن كان هناك فيها ما لا يعجبنا فمن العبث أن نلبس الليبرالية حلة غير حلتها تتعارض مع المبادئ الأساسية لها، بل بالأحرى نعلن عن رفض الليبرالية بصراحة كما فعلت الدول الشيوعية.

و لنبدأ توضيح نقاط التعارض بين الإسلام والليبرالية.

في الزواج، يميز الإسلام بين الرجل والمرأة، فيتيح للرجل الزواج من أربع ولا يتيح للمرأة الزواج إلا من واحد فقط، وهذا تمييز بناء على الجنس. وقد يقول البعض أن هذا شأن المسلمين وليس لي أن أتدخل فيه. حسناً يا سيدي الفاضل! لن أتدخل. فماذا عن إتاحة الزواج بين مسلم وغير مسلمة من أهل الكتاب وتحريم الزواج بين رجل من أهل الكتاب ومسلمة؟ وماذا عن تحريم زواج المسلم من غير أهل الكتاب؟

وقد يقول قائل إن المسيحية أيضاً تحرم زواج المسيحيين والمسيحيات من غير المؤمنين بالمسيحية، وأقول نعم هذا صحيح تمام الصحة، وربما كانت ديانات أخرى تحذو نفس الحذو، ولكن هناك فارق شاسع بين الإسلام والمسيحية في نقطة معينة. المسيحية ليس نظام دولة، ولم تكن أبداً نظام دولة بنصوص الكتاب المقدس، وإنما استخدمت خطئاً للهيمنة على الدولة في العصور الوسطى لأوروبا، ولم تستخدم كمثل هذا في أماكن أخرى من العالم، مما يدل على أن هذا الاستخدام (أو سوء الاستخدام بمعنى أدق) هو خاص بأوروبا في العصور الوسطى وبالكنيسة الكاثوليكية في تلك العصور تحديداً وليس منهجاً عاماً في المسيحية. أما الإسلام على الجهة الأخرى فمن الثابت فيه أنه دين و دولة ونظام حياة، ووَجَب على المسلم تطبيق شرائع الإسلام إن استطاع لذلك سبيلاً، وبالتالي فإن أي نظام إسلامي للحكم لا بد حتماً أن يطبق شرع الإسلام، فيصير التمييز قانوناً للدولة بدلاً من أن يكون خاصاً بمجموعة من البشر تجمعهم صفة معينة هي الدين في حالة الكنيسة وما شابهها في الأديان الأخرى.

ويجب أن أوضح هنا فرقاً هاماً بين التمييز في الحقوق المدنية العامة وبين اختصاص جماعة ما بما يميز أعضاءها عن غيرهم، فهناك العديد من النوادي الخاصة والجمعيات الخاصة في كل أنحاء العالم، وهي قد تخص أعضاءها بامتيازات دوناً عن غيرهم وتلزمهم بواجبات أيضاً دوناً عن غيرهم، والانضمام لتلك النوادي أو الجمعيات أو الانفصال عنها اختيار حر للفرد لا يجبره عليه أحد، وإن خالف أحد الأعضاء شروط الانضمام للمجموعة فإنه يُفْصَل منها بدون أن تُْنتَقص حقوقه المدنية، ولا يعقل أن يطالب هذا الفرد بإجبار المجموعة على منحه امتيازاً خاصاً دون أن تتحقق فيه شروط الانضمام للمجموعة، فلا يعقل أن يقاضي أحد نادياً ما لأن النادي أنهى عضويته لامتناعه عن دفع الاشتراك السنوي. هذا هو الحال بالضبط في تحريم الكنيسة زواج المسيحيين و المسيحيات من غير المؤمنين بالمسيحية، وفي المجتمعات الليبرالية الحقة هناك زواج مدني لا يأخذ في الاعتبار دين المتزوجين، فلا تكون الكنيسة قد حرمت أحداً من الزواج مطلقاً، بل تكون قد أخرجته من الجماعة الكنسية لإصراره على مخالفة الشروط، وليس في ذلك غرابة.

أما أن يُحَرِّم القانون في الدولة زواج مواطن ما من مواطنة ما بناء على الدين، فهذا هو التمييز بعينه، وهذا ما يناقض مبادئ الليبرالية وحقوق الإنسان مناقضة صارخة. كنت أتناقش مع أحد الأشخاص المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في هذا الموضوع، وهو معروف عنه تعصبه الواضح للجماعة وأسلوبه في النقاش كان لا يختلف عن أسلوب العديدين من أعضاء الجماعة، إذ أنه كان يهرب من الإجابات في بعض الأحيان ويحول دفة الحديث لموضوعات أخرى في بعض الأحيان، وإذا اضطر للإجابة عما ليس عنده إجابة له يعطيك منطقاً مغلوطاً. عندما طاردته للإجابة عما إذا كان هذا المبدأ في الإسلام تمييزاً أم لا، وقلت له أن الكنيسة تعتبر المسيحية المتزوجة من مسلم زانية كما يعتبر الإسلام المسلمة المتزوجة من غير المسلم زانية، وبالتالي فإما أن نحرم ما يعتبره قطاع ليس بقليل من الشعب زناً (وهذا ليس الحل المثالي بالنسبة لي) أو أن نفتح الباب للزواج بدون قيد أو شرط من جهة الدين ونترك حرية الاختيار للأفراد، فكان رد سيادته ”و ماله... انتم اعتبروها زانية و احنا نعتبرها متزوجة“......!!! أي منطق أحمق هذا؟! أوليس هذا إقراراً بالتمييز بناء على الدين؟

ثم هناك أيضاً التمييز عند الفصل في نزاعات حضانة الأطفال بين المطلقين. الإسلام يميز الطرف المسلم عند اختلاف دين الطرفين فيعطيه حضانة الأطفال حفاظاً على دينهم الإسلامي، وربما كانت تلك هي الأولوية القصوى في الحكم في تلك القضايا. وهناك بعض الأمثلة الحديثة في القضاء المصري لهذا التمييز. بل ويتعدى الأمر لما هو أبعد من ذلك، إذ يقرر القضاء دين الأطفال القصر، ولهذا أيضاً أمثلة حديثة في القضاء المصري. وفي حديث تليفزيوني لها، قالت الدكتورة سعاد صالح أستاذة الفقه الإسلامي إن الأولاد يتبعون ’أعلى الطرفين ديناً‘، وبكل تأكيد فإن الإسلام هو أعلى الأديان من وجهة النظر الإسلامية. أوليس هذا أيضاً تمييزاً بناء على الدين؟

وهناك ما هو محل خلاف بين المسلمين مثل ولاية غير المسلم على المسلم. المتشددون يعتبرون أن أي نوع من الولاية، كأن يعمل المسلم تحت إمرة غير المسلم غير مقبول في دولة إسلامية. من هم أقل تشدداً يعتبرون أن تولي غير المسلم المناصب القيادية العليا غير مقبول، فلا يصح أن يتولى منصب مدير إدارة أو مدير عام أو محافظ أو وزير. المعتدلون وهم الأغلبية (وأتحدث عن وطني مصر) يقبلون بتولي غير المسلم المناصب العليا فيما عدا مناصب القمة والمناصب ذات الأهمية الاستراتيجية في الدولة، وفي رأيهم أن تولي غير المسلم في دولة إسلامية مناصب مثل منصب رئيس الدولة أو نائبه أو وزير الحربية أو الداخلية غير مقبول. والمنفتحين من المسلمين لا يجدون غضاضة في تولي غير المسلم أي من مناصب الدولة على الإطلاق ويرون أن الولاية غير المقبولة هي الولاية الدينية. وهناك أمر تبديل الدين الإسلامي بسواه، فالبعض يحكم على المرتد بالقتل والبعض يرى أن الاستتابة تمتد حتى لحظة الموت، والحكم على المرتد بالقتل ينافي حرية العبادة. وهناك عقوبة مثليي الجنسية؛ العقوبة في الإسلام هي القتل عند العديدين، ويرى البعض تجريم الفعل قانونياً بعقوبة دون القتل. ثم هناك حد شارب الخمر. المجاهر بشرب الخمر يجلد، والخلاف على تعريف المجاهرة وليس على العقوبة. وعليه فإن أغلب المسلمين لا يزالون يميزون بين مواطني الدولة في الحقوق المدنية بناء على الدين ويقيدون بعض الحريات، وعندما أقول المسلمين أعني بذلك أيضاً فقهاءهم وشيوخهم الذين يرجع لهم في أمور الدين الإسلامي.

و هناك أيضاً أمور عليها الكثير من الخلاف. في الإسلام مثلاً دية قتل المسلم تختلف عن دية قتل غير المسلم، أي أن العقوبة قد تختلف باختلاف دين المجني عليه، ولكن يبدو أنه مع زوال نظام الدية انقرض هذا التضارب مع الليبرالية، وإن كنت لا زلت أسمع البعض هنا وهناك يذكرون هذا الشأن. وفي الإسلام أيضاً لا يشارك غير المسلم في جيش الدولة في مقابل أن يدفع الجزية، وهذا تمييز واضح بناء على الدين، وربما كان هذا التمييز مقبولاً في العصور القديمة، لكنه لم يعد مقبولاً الآن في القرن الحادي والعشرين وبعد انتشار الليبرالية وإقرار مبادئ حقوق الإنسان. وبالرغم من أن العديد من فقهاء المسلمين يرون أن نظام الجزية كان معمولاً به لسبب قد انتفى ومن ثم انتفى النظام ذاته، نجد هناك آخرين يطالبون بتطبيق هذا النظام في الدولة الحديثة بل ويدَّعون أنه خدمة من الإسلام لغير المسلمين. وبناء الكنائس مثلاً وهو لازم لحرية التعبد عليه خلاف بين فقهاء المسلمين. الأغلبية منهم يرون أنه لا غضاضة في بناء الكنائس طالما كان هناك احتياج واضح لها ولا داعي أبداً لبنائها لو لم يكن لها احتياج واضح، وما زلت لا أعرف بالضبط مقاييس هذا الاحتياج، ولكن حتى ذلك فيه تقييد للحريات، فطالما أن الدولة لن تتحمل عبء بناء الكنيسة فلماذا التقييد؟ والبعض منهم يرى أن بناء كنائس جديدة في أرض المسلمين غير جائز وإن تهدمت إحدى الكنائس لا يعاد بناؤها.

هذا ولم أذكر حتى الآن بعض الآراء المتطرفة التي تنادي بإذلال غير المسلمين واضطرارهم لأضيق الطريق وعدم تهنئتهم أو تعزيتهم على الإطلاق والتفريق بينهم وبين غير المسلمين في التحية وما إلى ذلك من معاملات. ولم أذكر أيضاً أن الشريعة الإسلامية لم تحرم الرق، وهناك من المتطرفين من يطالب بإعادته اليوم.

وعليه يكون إسلام المسلمين المنفتحين الجانحين لأقصى اليسار—بالثابت فيه من شرائع—متنافياً مع الليبرالية، ويزداد هذا التنافي كلما ازداد تطرف المسلم يميناً حتى يكاد يكون مناقضاً لليبرالية، ولذلك أعجب ممن يدّعون أنهم ينتمون للإسلام الليبرالي، فليس هناك توافق بين الإسلام والليبرالية إلا لو أعدنا تعريف الليبرالية فقيدنا بعض الحريات هنا و هناك لتتماشى مع شرائع الإسلام. فإذا كنت ليبرالياً صرفاً لا يمكن أن تكون مسلماً والعكس صحيح. واعلم أن الإسلام الليبرالي له نسخته الخاصة من الليبرالية التي تقيد فيها بعض الحريات، ولتَْبنِ قراراتك واختياراتك بناء على هذه المعرفة ولا تظن أن ليبرالية الكتب هي ليبرالية الإسلام.


نسب المصنفات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق